بائع لموناده في دمياط |
النصوص التالية منسوخة من كتاب "تهذيب موانح الأنس برحلتي لوادي القدس"، تأليف مصطفى أسعد اللُقَيْمي (المتوفى سنة 1178 هـ - 1765 م)، هذبها وحققها الدكتور رياض عبد الحميد مراد، وزارة الثقافية - الهيئة العامة السورية للكتاب - إحياء ونشر التراث العربي (187)، دمشق 2012م، مصحوبة ببعض تعليقات طفيفة مني (باللون الأخضر):
ففي يوم الثلاثاء من ذي القعدة الحرام، عام ثلاثة وأربعين ومئة وألف من هجرته عليه الصلاة والسلام، سِرْتُ من ثغر دمياط باسم المبدىء المعيد، سائراً على قدم التوكل والتجريد، وقد تلهفت بالتصعد أنفاساً، وأشعل الوجد بطور القلب نبراساً، فصليت الظُّهر بجامعه الجامع، ودعوت الله بالتسهيل إذ هو خير سامع؛ وسرتُ نحو أحياء الأموات، وقرأت لهم الفاتحة، ولا سيما جناب سيدي فاتح لتكون رحلتي ناجحة، وتوجهت إلى البحيرة، وركبت من السفن أجراها، ثم تَلوْتُ بِسمِ اللَّهِ مجرِيها، فعند ذلك هاجت بلابلُ الأشواق، حيث لم أودع حبيباً يوم الفراق.
دعاني الّنوى قهراً على حين غَفْلةٍ فلم أستطع أني أرى من موْدع
مخافَة يغشى الدمعُ عيني فلا أرى ويذهل عقلي بالوداع فلا أعي
ومررت بسيدي شطا، والقرشة، والبغدادي، والتفاحي، والدائر. وقرأت لهم الفاتحة رجاء إمدادي.
وأهديت الفاتحَة لسيدي عبد الله تونا، وأبي الوفاء، وسكان البحيرة الذين هم من أهل الولاية والوفاء.
ومن موضع آخر بالكتاب، قصيدة مدح لدمياط
ولقد مدحها فأبدع وأجاد، شقيق الروح والفؤاد، البارع المجيد السيد محمد السعيد بقصيدة طويلة بديعة الصفات، فاخترت منها هذه الأبيات:
إذا ثغر دمياطٍ به ابتسم الزهرُ حكى ثغر معسول اللَّمى حينَ يفترُّ
أحاطت بها تلك الرياض كأنها فراديسُ حفّتها سرادقُها الخضرُ
بساتينُها عُدَّت كأيام حولها فأيُّ بلاد زانها ذلك القدرُ
ومن تحتها الأنهارُ شبهُ أراقمٍ تجاري هبوبَ الريح أزعجها الزَّجْرُ
غَدَتْ بهجةً للّناظرين ونزهةً بألوانِ زهرٍ زانَهُ النظمُ والنثرُ
لها ظاهرٌ يزهو برونق باطنٍ فظاهرها زهرٌ وباطنها نهرُ
وحاكت لها الأنوا مطارف سندسٍ مكللة بالطَّل زركشها الزَّهْرُ
نواعيرها تبكي بسائل مدمع فتُضحك ثغر الروض إن أبطأ القطرُ
حكت حرفَ نونٍ خطَّه قلمُ العُلا بحسن اعوجاج يستقيم به المطرُ
وتحكي إذا حققت رونق شكلها هلالاً وزهر الروض أنجمُه الزهر
وقوساً بأطراف السهام مُفَوَّفاً وراميه بدرُ التَّمِّ إذ بزغ البدرُ
وكم يزدهي قصرٌ بشاطئ نيلها على حسن ذاك القصر يُستحسن القصر
ربوعٌ بها روحي وراحي وراحتي بذكري لها والصبُّ يُطربه الذكرُ
تحن لها الأرواح شوقاً كأنها هي الشامُ أو دارُ الخلافة أو مصرُ
قد افتخرت من حيث إدريس خطَّها ومنها ارتقى رَفْعاً فحقّ لها الفخرُ
وشكلُ جناحَيْ جبرئيل مُصوّرٌ بجامعها الفتحي وما الخَيَرُ الخُبْرُ
هنالك صار المدّعي كل جمعةٍ بأكمل آدابٍ إذا صُلِّيَ العَصْرُ
وينظر خطاً في السماء منوّراً يوازيه جنحُ الليل إن أفل البدرُ
وفيها شطا ذا التابعيّ مقامه على أيمن الوادي فغبراؤه عطرُ
وشرّف مَنْ صحب النبيّ بأربع لديه ولم يُعْلَم لأسمائهم ذكرُ
فَقَبِّلْ ثرى أعتابهم واستغِثْ بهم لحادث هذا الدهر إن غَدَر الدهرُ
ولازمْ رحابَ الأولياء وثِقْ بهم حريصاً على الحسنى إذا خُتم الأمرُ
وخذ من سعيدٍ سِبْطِ طه فرائداً هي الجوهرُ المكنونُ في سمطه الدرُّ
وبيتُ قصيدي مدحُ طه وآله فإنهمُ القاداتُ والأنجم الزهرُ
ثم ينقل عن المسعودي وصفه لجزيرة تنيس وماحولها ومنها الفقرة التالية (وسبب نقلها هنا هو أنه ذكر أن بورة كتونة موضع في البحيرة واللقيمي قام برحلته عام 1731 م، فبظني لو كان يعلم لبورة مكانا آخر لذكره، ولاحظ أيضا أنه ذكر من جامع تاريخ دمياط، وهو نفس الكتاب الذي ذكره المقريزي من قبله ونوه عنه د. جمال الدين الشيال في تحقيقه لمخطوطة أنيس الجليس وأشار لفقده)
فلما مضت لدقلطيانوس من ملكه مئتان وإحدى وخمسون سنة هجم الماء من البحر على بعض المواضع التي تسمى الآن بحيرة تِنّيس، فما كان من القرى التي في قرارها غرقت، وما كان منها على ارتفاع من الأرض بقيت كتونه وبورة، وكان استحكام غرق هذه قبل أن تفتح مصر بمئة سنة.
وقال في جامع تاريخ دمياط:
وكان أهلها مياسير - أي أصحاب ثروة - وأكثرهم حاكة، وكان يُصنع فيها ثوبٌ للخليفة، يقال له البدنة لا يدخل فيه من سُدى ولحمة غير أوقيتين، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحتاج إلى تفصيل ولا خياطة تبلغ قيمته ألف دينار، وكان يعمل منه ستر الكعبة. وما زالت تِنِّيس مدينةً عامرةً إلى أن خربها الكامل محمد بن العادل في سنة أربع وعشرين وست مئة، فاستمرت خراباً، ولم يبق منها إلا رسومها وسط البحيرة وبحيرتها الآن يصادُ بها السمك، وهي قليلة العمق، وتلتقي السفينتان هذه صاعدة وهذه نازلة بريح وقلع، كل واحد منه مملوك بالريح مسيرها في السرعة مستو، وبوسط هذه البحيرة عدة جزائر تعرف بالعزب يسكنها الصيادون وماؤُها ملح. وقد يحلو أيام النيل. انتهى.
وهنا يسرد المؤلف قصيدة كتبها عن زيارة قام بها لتنيس عام 1723 م:
وفي عام خمسة وثلاثين ومئة وألف وقفت في بعض زياراتي عليها، ونظرت بعين الاعتبار إليها، فلم أرَ بها إلا رسوم أطّلال وآثار، إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار:
تلك المعاهد من تِنّيس قد مُحيت لم يَبْق منها سوى آثار أطلالِ
كأنها لم تكن من قبل دوحتها من تحتها قد جرى أنهار سلسالِ
يبكي عليها غراب البين من أسفٍ كأنما نسفتها ريح زلزال
فكم بها لأولي الأبصار من عبرٍ فانظر إليها بعين الناقد السالي
ثم يذكر بعد ذلك كيف بقية مسيرة الرحلة، وأذكر منها جزء بسيط، والباقي يمكن العودة إليه في الكتاب الأصلي
ثم بعد ركوبنا البحيرة على متن السفين، نتلو إياك نعبد وإياك نستعين ، وصلنا ثاني يوم فم أم مفرج، فركبنا متون الصافنات على قلعة الطينة نعرج، فوردناها قرب الغروب، فنزلنا بها، وقد زالت عنا الكروب، وأكلنا ما حضر من العشاء، وسرينا منها بعد صلاة العشاء، حتى نزلنا آخر الليل نحن والقوم، وطلبنا الاستراحة فاضطجعنا للنوم، إلى أن هزم الصبح جيش الليل البهيم، فسرنا بعد الإسفار إلى الرماني منزل بني هشيم، فتلقونا بالبشر والإكرام، وبثغور زاهية الابتسام، من كل مولى حميم، وجواد كريم