من كتاب تاريخ مصر في عهد الخديو اسماعيل باشا من سنة 1863 الى سنة 1879 لواضعه الياس الايوبي، المجلد الأول، طبع بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1932 م - 1341 هـ، صفحات 264، 265 (رابط).
وما هو أكثر من ذلك جميعا ، عقد القروض بفوائد، لتنفيذ أعمال الحضارة والعمران
التى استوجبها تحقيق ذلك الشطر من خطته وأقام التماثيل، دون أن يقع فى خلده
مرة أن يقيد بقيد أو أن يستفتى فى أى شئ مما عمله .
وربما شجعه على استمراره فى الانطلاق من القيود ، التى تقيد بها جدّه نفسه ،
أنه، فى المرة التى طلب فيها رأى أرباب الدين — أى قبيل تعاقده مع دولة الانجليز
على منع تجارة الرقيق منعا باتا، وجد منهم تعنتا وجمودا أثارا غضبه فى صميم كيانه .
فشيخ الإسلام ومفتى الديار عارضا فى ذلك، زاعمين أنه مخالف للأصول الدينة،
وانضمت إليهما في المعارضة هيئة العلماء بأسرها ٠ فعزل (اسماعيل) الشيخين؛ وأنذر
بالغاء عموم هيئة العلماء ، إذا استمرّوا على معارضتهم ٠
ولم يبال (اسماعيل) بهم ووقع تلك المعاهدة . وقوّى عزيمته عل إلغاء الرق بطريقه
المعروف في زمنه أن الدين الإسلامى شديد الرغبة فى منع الاسترقاق متشوّف دائما
الى الحرية وإطلاق الأنفس من قيود العبودية ٠
فلما رأى الناس منه ذلك — والناس على دين ملوكهم — أخذوا، رويدا رويدا،
يغيرون أفكارهم الأولى ؛ ويفقهون معنى الجهاد فى هذه الحياة الدنيا ٠
ومع أنه كان يخالف العداء فيما يراه مصلحة ، كان يغار على دينه أن يلصق به
ما ليس منه من البدع فيجتهد فى محوها ٠ من تلك البدع : "الدوسة" و"الأذكار"
و"السحر" و"التنجيم" ٠
أما الأذكار، فأمرها معروف، لأنها لاتزال معاصرة لنا ، ولم تجد مجهودات عهد
(اسماعيل) فى إبطالها ، أو على الأقل حصرها في دائرتها العبادية المعقولة، شيئا ٠
وأما "الدوسة"، فقد كانت حفلة تقام في آخر أيام المولد النبوى، حيثما كانت
تقام أعلام هذا المولد، أى فى الأزبكية، أوّلا، لما كانت على حالها القديمة؛ ثم
بعد ما أدخل الإصلاح والعمار عليها، فى جهة القصر العالى ٠
فكانت جماهير الدراويش والآخذين على المشايخ عهودا — بعد إقدامهم على إقامة
الأذكار، حتى يعتروهم الخور — يأتون الى متسع من الأرض متروك أمام صواوين
المولد وخيامه ، ويستلقون مرصوصين، كأنهم الحجارة ، الواحد بجانب الأخر؛ ثم
يأتي الشيخ الخضري ، شيخ السعدية، وقد تجلت عليه الجلالة فأسكرته؛ ووضع على
رأسه عمامة واسعة ثقيلة؛ وركب جوادا مطهما ، أخذ يترنح على ظهره ، ذات اليمين
وذات الشمال، وحركات رأسه، صوب الجهتين ، تقترن بذلك الترنح ، وأقام اثنان
من أصحاب العهود عل جانبيه ، يسندانه ، لئلا يزداد خور قواه من ذلك الترنح، فيقع
على الأرض ، ويسير بجواده ، وهو على تلك الكيفية ، فوق صفوف الدراويش
المنطرحين أرضا ، وقد فرغ المنوط به أمر ملاحظتهم من تصييرهم تماما الى حال
الشارع المرصوف، الذي لا يبرز فيه حجر عن المستوى العام ٠ فيدوسهم بلا مبالاة ،
تطقطق أعضاء من تطقطق أعضاؤه، وتنخلع عظام من تنخلع عظامه ، ويتهشم
من يتهشم ، فلا يصاب بأذى إلا من قل إيمانه ، أو ثقلت كفة آثامه(1) على ما هو
فى اعتقادهم الذي ورثوه عن الجاهلين ٠
غير أن هذه الحفلة الفظيعة لم تكن تقام إلا فى العاصمة ؛ وأما فى الأرياف ،
فكانت مجهولة، لايسمع الفلاحون بذات اسمها ٠
(1) أنظر ، كلام بتلر عن الدوسة في كتابه المعنون "حياة البلاط بمصر" ، الفصل السادس ، والفصل
العاشر، والفصل الحادى عشر،والفصل الثاني عشر على الأخص ؛ وانظر : نيل سنت جون في كتابه
المعنون "الحياة القروية بمصر" ص 146 وما يليها ج ا