الثلاثاء، 4 فبراير 2020

شاكوش عم عبده تأليف علي سالم

صورة لنجار أويما من دمياط (من ويكبيديا كومنز)
صورة لنجار أويما من دمياط (من ويكبيديا كومنز)


شاكوش عم عبده

  تناول الأسطى عبده النجار الاصطباحة ثم طعام الإفطار
وحبس بعدة كراسي دخان معسل ثم وقف أمام البنك الخشبي في
ورشته الصغيرة وبسمل ثم دعا الله أن يعينه على الشقاء. أخذ
يستعرض قطع العدة أمامه ثم قال لصبيه: ياله يا حندق.. روح
للأسطى ابراهيم وقل له بيصبح عليك الأسطى عبده لو سمحت
تسلفنا الشاكوش بتاعك نص ساعة .. بس إجري .. أوعى تتأخر.

انطلق حندق يجري مسرعا وعاد يلهث بعد ساعة فقد كانت
ورشة الأسطى إبراهيم بعيدة قال: الأسطى إبراهيم بيقول لك إنه
شغال بالشاكوش في شغل لازم يسلمه النهارده.

طب روح للأسطى محمود وقل له بيصبح عليك الأسطى عبده
وبيقولك بأمارة ما شافك في السوق امبارح وسلم عليك، لو سمحت
تسلفنا الشاكوش بتاعك.. بس جري.

وانطلق حندق مسرعا وعاد بعد ساعة فقد كانت ورشة
الأسطى محمود بعيدة جداً، قال وهو يلهث: الأسطى محمود بيقولك
إن الإيد بتاعت الشاكوش انكسرت وبعته عند الخراط يعمل له إيد
جديدة.

لا حول ولا قوة إلا بالله.. طب اسمع، اطلع جري على الأسطى
خليل وقل له الأسطى عبده واقف عطلان والشاكوش عند واحد
زبون.. وبيطلب منك الشاكوش بتاعك ربع ساعة .. بس جري
يا حندق.. ما تتأخرش.

وانطلق حندق جاريا وعاد بعد ساعتين فقد كانت ورشة
الأسطى خليل بعيدة جداً.. جداً.. جداً وعاد وهو يكاد يموت من
التعب: الأسطى خليل بيتأسف لك قوي وبيقول لك إن الشاكوش
بتاعه خده الصنايعي يقفل بيه شغل عند واحد زبون.

طب اسمع.. استريح شوية وروح للأسطى عطية.. طب روح
للأسطى سيد، طب روح للأسطى أحمد.. طب روح للأسطى مسعد..
لا أمل، لا أحد يريد أن يستغني عن شاكوشه.

كان النهار قد انتهى تقريباً، استولى اليأس على الأسطى عبده.
فقال لصبيه حندق: عالم ماعندهاش مروءة.. أمرنا لله ناولني يا بني
الشاكوش بتاعنا.

* * *
  لماذا لم يبدأ الأسطى عبده يومه بأن يطلب من صبيه أن يناوله
الشاكوش بتاعهم؟ لماذا ضيع كل هذا الوقت؟ لماذا عذّب صبيه حندق
في مشاوير لا ضرورة لها طول النهار؟ لماذا أراق ماء وجهه عند زملائه
النجارين؟ لماذا عطل نفسه؟.

  ليس أصدق على الأرض من الحدوتة الشعبية القصيرة، هي
كتاب ومرجع، وهي قاعة محاضرات، وهي معمل للبحث العلمي، هي
الكتالوج الذي نتبين فيه ميكانيزمات العقل والسلوك البشري، هي
طرفة لمن يبحثون عن الطرافة، وهي هادية ومرشدة لمن يبحثون عن
الهدى والرشاد.

  هل الأسطى عبده لا يريد أن يستهلك العدة الخاصة بورشته؟
جائز، ولكن الشاكوش بالذات قطعة عدة تعمل لعشرات السنين دون
أن تفقد فاعليتها، بل إن الشاكوش بالذات ينتقل من الأجداد إلى
الأحفاد.

  ماذا تقصد هذه الحدوتة الشعبية القصيرة؟

  هي باختصار تلقي الضوء على خاصية في العقل البشري
تدفع بعض الناس إلى استهلاك كل الفرص المتاحة إلى أن ترغم على
اتخاذ القرار الصحيح والذي تعلم مسبقا أنه صحيح منذ البداية،
العقل البشري الطبيعي - إذا كان له وجود - يعمل بموجب مبدأ يقول
له، أفعل ما هو طبيعي وبديهي ... أنا الآن أقف أمام البنك لأعمل،
ناولني يا حندق الشاكوش.

  أما عقلية الأسطى عبده فهي تعمل بمبدأ يقول: لا بد أن يرغمني
أحد على أن أفعل ما هو صحيح. سأتجنب فعل ما هو صحيح وحتمي
إلى أن يرغمني أحد أو حدث أو شئ على الفعل الصحيح أو الاتجاه
السليم، ليس مهما الوقت الذي أضيعه، الزمن لا أهمية له، والعمل
والانجاز أيضا لا أهمية لهما، لا بد من الاستمتاع بالمحاولات العديدة
الفاشلة للحصول على شاكوش من الآخرين، الخسائر ليست مهمة
بالمرة.

أخيرا أبلغت حكومة العراق الأمم المتحدة أنها على استعداد
للتعاون التام فيما يختص بالأسلحة الكيماوية والجرثومية وبذلك
يحق لها أن تطلب رفع الحظر عليها، ذلك الحظر الذي كان نكبة على
العراق وحكومة العراق وشعب العراق. بعد خمسة أعوام من المماطلة
والمماحكة واللف والدوران، بعد خمسة أعوام من الضياع غير
المسبوق في التاريخ، بعد كل ذلك الكم من الخراب، الحكومة العراقية
تقول: ناولنا يا حندق الشاكوش بتاعنا

السؤال هو: هل في ثقافتنا العربية ما يجعل العقل يعمل
بموجب هذا المبدأ؟ مبدأ الشاكوش وعم عبده؟ ما هو الخطأ المسئول
عن ذلك في تراثنا أو تربيتنا؟ لما نسعي سعيا للإرغام، أم أن ذلك
السلوك تعبير عن انعدام الإحساس بالمسئولية؟ أو انعدام الرغبة في
العمل؟ لنواجه أنفسنا بشجاعة، هل العمل ممجد في تراثنا؟

من المؤكد أن العمل من ثوابت العقل عند المصريين، الزراعة،
الري، البناء، الحكمة، الدولة.. بالتأكيد كانت مصر تستيقظ في الصباح
الباكر كل يوم وتمسك بشاكوشها الخاص وتعمل. للأسف هارون
الرشيد لم يكن حاكما مصرياً، لذلك كان من حقه أن يقف في شرفة
قصره ناظرا لسحابة بعيدة وأن يقول لها: أمطري حيث شئت فسوف
يأتيني خراجك.

لم يكن العمل مطلوبا في ذلك الوقت، المطلوب فقط كان انتظار
الخراج القادم من أمطار بعيدة، ما العمل الآن والسحب تمطر فقط في
أوربا وأمريكا واليابان ولا يأتينا منها الخراج.. بل الديون. الناس في
العالم كله تعمل بينما نحن نتناقض طول الوقت باحثين عن الطريقة
المثلى للامتناع عن الفعل، طول النهار ننتظر شاكوشاً لن يأتي أبداً،
بعبقرية نادرة وبجهد جهيد نؤجل اللحظة التي نقول فيها: أمرنا لله
يا حندق.. ناولنا الشاكوش بتاعنا.. هيا يا حندق نزرع الصحراء..
تعال يا حندق نطعم كل هؤلاء البشر، تعال نملأ عقولهم بالعلم
وقلوبهم بالموسيقى، اقفل مخازن الكلام يا حندق..
نحن جزء مهم من هذا العالم، وعلينا أن نستخدم مفرداته،
علينا أن نحصل على احترامه وتقديره لكي يساعدنا ونساعده..
ناولني يا بني الشاكوش بتاعنا

من كتاب: شواكيش ساخرة تأليف علي سالم، صفحات 99 - 103

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق