وكان أيضا حسن الصورة جميل التقاطيع حلو القسمات
فضايقه ذلك كثيرا وقرر أن يكون قبيح الوجه فتم له ما أراد.
- كيف..؟ هل يستطيع الإنسان أن يكون قبيحا؟
- نعم، بنفس الطريقة التي يكون بها جميلا.. أي أن يكون
جميلا فيرى الوجود جميلا.. في هذه الحالة سينعكس الوجود الجميل
على وجهه وسلوكه جمالا.. ويستطيع أيضا أن يكون قبيحا بأن يردد
الألفاظ القبيحة ويعتنق الأفكار القبيحة، ويأتي من الأفعال بكل ماهو
قبيح.. عند ذلك يتحول لشخص قبيح ينفر منه الناس.
- لا تظلم الرجل، أليس من المحتمل أنه ضحية لظروف أرغمته
على ذلك؟
- هذا ما تصورته في البداية، ولكن بدراسة حالته جيدا أيقنت
أنه "يريد" كل ذلك، لا تصدق أن شخصا يتطوع بالكذب لأن هناك من
أرغمه على ذلك، هو يكذب لأنه كذاب، ويفخر بقوة أجداده لأن
الضعف طبيعته، ومزور لأنه يعشق التزوير، ويشوه الآخرين
لإحساسه بأنهم أفضل منه، هناك متعة خاصة في الصراخ والعويل
ولطم الخدود لا تعرفها سوى النائحات الندابات عاشقات اللطم في
الجنازات.
من الغريب أنه أضاع جزءا كبيرا من ثروته على المحاكم، فهو
يغير ويعدل ويبدل في اسمه كل عدة شهور، وتغيير الاسم ليس بالأمر
السهل، ففي كل مرة يضيف فيها لقبا جديدا إلى اسمه، لابد أن يرفع
قضية جديدة مما يستلزم مصاريف ورسوما وأتعاب محاماه و وقتا
ضائعا. كان في البداية تائها فقط، ثم أضاف عدة ألقاب جديد كبدته
خسائر فادحة. اسمه الرباعي الآن هو التائه الفقير الضعيف الضائع،
ولكنه بسبيله الآن لرفع قضية جديدة لجعل اسمه عشاريا، أي من
عشرة ألقاب، وليس أربعة كما يحتم القانون.
- ياله من مسكين.
- من هو المسكين؟ هو الآن في أفضل حالاته، قلت لك إنه يحب
ذلك.
- عموما لا بأس بشخص واحد أو حتى عدة أشخاص بهذه
الحالة.
- بالعكس.. الأمر أصبح الآن خطيرا جدا. مريدوه الآن بالآلاف
بعد أن بدأ يعمل بالكتابة في الصحف.. اقرأ الصحف الآن من كل
الاتجاهات.. ابدأ بالمفكر العظيم نزار قباني.. اعجن المقالات في بعضها
البعض، أدخلها كمبيوتر.. ستظهر على الشاشة مفردات تدور كلها
حول إحنا غلابة.. إحنا يتامى.. إحنا مهزومين.. إحنا متنيلين.. إحنا
ولاد الـ..... إحنا عجزة.. إحنا فاشلين.. إحنا ما نستحقش الحياة..
يلعن روح أبونا..
- لقد شوقتني ياسيدي لرؤيته والتعرف إلى أفكاره عن قرب،
يخيل إلي أن الرجل يستنهض همم الناس.. لعله تصور أنه بموقفه
هذا سيدفع الناس إلى التخلص من ضعفهم والسير في طريق القوة،
وأن اتهامهم بالكسل والعجز قد يدفعهم إلى النشاط، وأن الإحساس
بالعار والضعة سيدفعهم لاتخاذ موقف يعيد لهم الاعتبار ويجلب
لهم الإحترام.
- قد يكون ذلك صحيحا إذا قيل بنغمة أخرى وفي إطار
مختلف.. أما هذا التجريح وجلد الذات الذي يتم الآن على نطاق واسع،
فهو يشعر المرء أن وراءه إحساسا باللذة أو على الأقل باليأس المريح،
فهم يغلقون أمام البشر أي باب للأمل.. ومع ذلك روح قابله.
تمكنت بعد جهد شديد من معرفة مكانه، كان جالسا على
الرصيف وحوله مجموعة من أتباعه، نظروا لي في شك وريبة، صاح
أحدهم: قف.. من أنت؟
- واحد غلبان.
- كلمة السر؟
- الكسل العقلي اللذيذ، الضعف الممتع، احتقار الذات، رعاية
الجهل.
- أهلا وسهلا، تقدم واجلس بين إخوانك.
تقدمت وجلست بينهم، تكلم عبد ربه والدموع تسيل على
وجنتيه: أين العرب؟ أين السلام؟ أين الكبرياء؟ أين الهمة؟ أين
الشرف؟ أين الضمائر... كل حاجة راحت.
صاح واحد من المريدين بتعاسة: والأندلس كمان راحت
يا مولانا.
من الواضح أن عبد ربه لم يستمع لنشرات الأخبار منذ 500
سنة، لأنه صاح في دهشة: والأندلس كمان؟ ... طيب مش كان حد
يبلغني يا اخوانا..
قالها وأجهش في البكاء، تجرأت وقلت له: يا شيخي العزيز..
ما رأيك في أن نفعل شيئا .. أي شئ .. أن نزرع هذا الرصيف مثلا.
رد علي بسخرية: و هل سيسمح لك أحد بالزراعة يا جاهل؟
- أو نصنع فيلما جيدا، أو أغنية جميلة تأسر قلوب البشر.
- ولماذا نبذل جهدا يؤدي إلى نتيجة فاشلة؟!.. لن نتمكن من
ذلك لأن الغرب القذر سيقف لنا بالمرصاد.
- لماذا؟
- لأنه شرير.
- أوافق على أنه شرير.. ولكن شعوبا كثيرة أفلتت من شره،
ربنا فتح عليها. ما تيجي نفلت إحنا كمان.
- الجدع ده مدسوس علينا.. عاوزنا نشتغل.
- ده شرير، عاوزنا نفهم.
- مش كده وبس، ده عاوز يحرمنا من قعدتنا الحلوة دي..
وهنا صاح أحدهم في تهديد: قوم يا جدع انت .. ابعد عننا.
فنهضت من مكاني وابتعدت عنهم.. أمر خطير للغاية أن تحرم
التعساء من لذة الإحساس بالتعاسة.
من كتاب: شواكيش ساخرة تأليف علي سالم، صفحات 143، 144، 145، 146
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق