في أغسطس عام 1900 انعقد المؤتمر الدولي للرياضيات في باريس. وفي هذا المؤتمر القى واحد من أعظم الرياضيين في
القرن العشرين - دافيد هلبرت - كلمته التاريخية التي عرض فيها أهم المسائل الرياضية غير المحلولة (وعددها 23) معتبرا
إياها أهم المشاكل التي ينبغي أن يركز الرياضيون على إيجاد حل لها ومع أن بعض هذه المسائل كان ذا طابع خاص إلا أن معظمها كان
يدور حول الأسس المنطقية للرياضيات. وكان هلبرت يعتقد أنه من الضروري بناء هيكل رياضي خال من الشكوك وعدم الاتساق وكانت كلمته في المؤتمر بمثابة دعوة للرياضيين للعمل في هذا الاتجاه أي إقامة أبنية رياضية متسقة منطقيا، وكان يؤمن بأن هذا ممكن
إلى درجة أنه بأن يكتب على قبره عند وفاته يجب أن نعرف، نحن سوف نعرف.
وعرفت دعوة هلبرت تاريخيا ببرنامج هلبرت وفي هذا الاتجاه اشتغل فريجيه Frege في بناء حلم الحساب كله على أساس
مجموعة صغيرة من المصادرات (مسلمات) وباستخدام المنطق وحده وفي هذا الاتجاه أيضا اتجه برتراند رسل الفيلسوف والرياضي
الإنجليزي المعروف. لكن عمل رسل اصطدم فجأة بمفارقة في نظرية المجموعات لم يجد لها حلا مهما بذل من جهد، وعندما أدرك فشله كتب إلى فريجيه بذلك وهو يعلم أن هذه المفارقة تهدم عمل فريجيه من أساسه وعندما وصلت رسالة رسل كان كتاب فرنيجيه عن الحساب على وشك الصدور من المطبعة ولم يملك هذا الأخبر إلا أن يكتب حزينا في آخر مقدمة كتابه:
"يصعب على أي عالم أن يواجه في آخر لحظة مسألة تهز أسس عمله، وقد وجدت نفسي في هذا الوضع برسالة من مستر برتراند رسل وكتابي على وشك الخروج من المطبعة".
لقد اكتشف رسل أن هذه المفارقة هي نتيجة مباشرة لاستخدام مصادرات الرياضيات التي كان يظن في ذلك الوقت أنها بينة
بذاتها وكافية لتعريف بقية الرياضيات وحاول رسل وآخرون إضافة مصادرة جديدة تمنع ظهور هذه المفارقات وبناء على ذلك نشر
رسل هو وهوايتهد الأجزاء الثلاثة من كتابهما (أسس الرياضيات) وعندما اعتزل هلبرت عام 1930 كان يشعر بالثقة في أن
الرياضيات على طريق الشفاء وأن حلمه ببناء منطق متسق قادر على الإجابة عن أي مسألة هو في طريق التحقيق.
لكن في عام 1930 نشر رياضي مجهول (كيرت جودل) في الخامسة والعشرين من عمره بحثا هدم كل أحلام هلبرت إلى
الأبد، وأجبر الرياضيين على قبول أن الرياضيات لا يمكن أن تكون كاملة من ناحية المنطق، وأن بعض مشاكل الرياضيات يستحيل حلها ثم نشر كتابا في نفس الموضوع اثار ضجة هائلة في أوساط الرياضيين
لقد برهن جودل على ان محاولة إيجاد نظام رياضي متسق وكامل هو عمل مستحيل وعلى وجه الخصوص برهن على نظريته
الأولى الأساسية والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
"إذا كانت مصادرات نظرية المجموعات متسقة فثمة نظريات رياضية لا يمكن برهان صحتها ولا برهان عدم صحتها."
وعندما وصلت أنباء هذا الاكتشاف المثير إلى الولايات المتحدة سارع الرياضي الكبير جون فون نيومان بوقف سلسلة
محاضراته عن "برنامج هلبرت" وخصص بقية السلسلة لمناقشة الثورة الرياضية التي أحدثها اكتشاف جودل.
ثم جاء بول كوهين عام 1963 من جامعة ستانفورد وقدم مثالا على نظرية محددة لا يمكن برهان صحتها ولا يمكن برهان عدم
صحتها وكانت هذه النظرية هي في الواقع واحدة من النظريات الثلاث والعشرين التي تحدث عنها هلبرت في محاضرته التاريخية في
المؤتمر الرياضي الدولي، الذي عقد في باريس عام 1900.
هذه النظرية هي التي عرفت تاريخيا باسم "فرض الاتصال" The Continuum hypothesis وتعود هذه النظرية إلى أيام
اشتغال كانتور في نظرية المجموعات اللانهائية وتعريفه للعدد الكاردينالي لكل مجموعة اللانهائية.
وتتساءل هذه النظرية ان كانت هناك مجموعة لانهائية عددها الكاردينالي يقع بين العدد الكاردينالي لمجموعة الاعداد
الطبيعية ( 1، 2، 3، 4، ... ) والعدد الكاردينالي لقطعة مستقيمة وقد افترض كانتور أنه لا توجد مثل هذه المجموعة اللانهائية وان كان
قد عجز عن برهان ذلك. حتى جاء بول كوهين مستخدما أفكار جودل وأفكارا أخرى وأثبت أن هذه النظرية (أو العرض
بمعنى أدق) لا يمكن برهان صحتها أو زيفها.
والطريق أن كوهين عندما ذهب إلى جامعة برنستون لمقابلة جودل وتسليمه البرهان (وكان جودل قد أصيب بالبارانويا) فتح هذا
الأخير الباب قليلا وخطف أوراق البرهان من كوهين ثم أقفل الباب بعنف. لكنه دعا كوهين بعد ذلك إلى الشاي في منزله عندما قرأ
البرهان واقتنع بصحته وكان هذا العمل بمثابة ترضية لكوهين
ومنذ ذلك الوقت ازدادت الهواجس لدى بعض الرياضيين في أن بعض النظريات التي لم يعرف إلى الآن حل لها ربما كانت من النوع الذي لا يمكن برهان صحته ولا عدم صحته مثلا لقد ظن بعض الناس أن نظرية فيرمات الأخيرة التي ظلت دون برهان منذ القرن السابع عشر ربما كانت من هذا النوع الذي اكتشفه جودل حتى اكتشف البريطاني أندرو وايلز Andrew Wiles عام 1996 برهانا لنظرية فرمات الأخيرة بعد عمل متصل لمدة سبع سنوات.
ومنذ اكتشاف جودل بدأ الرياضيون يدركون أن ثمة حدودا لما يمكن أن يعمله المنطق وأن الأحلام التي ساورت بعض الرياضيين في بناء كل الرياضيات على قواعد المنطق فقط لم تكن إلا وهما وأنه حتى أعظم الرياضيين مثل دافيد هلبرت يمكن أن يكون ضحية لمثل هذه الأوهام.
جريدة الأهرام - ملحق الأهرام صفحة 11 - الجمعة 6 نوفمبر 1998.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق