محاصرة الصليبيين دمياط
سنة ۱۲۱۸ م
هاجم الصليبيون دمياط غير مرة في اثناء الحروب الصليبية وكانت الحرب سجالاً
بينهم وبين المسلمين . ثم تمكنوا من فتحها سنة ۱۲۱۹ ( ٦١٦ هـ ) ولكنهم قاسوا
في ذلك عذاباً شديداً . لأن المصريين كانوا قد انشأوا برجاً من الخشب اقاموا فيه
المقاتلة ومدُّوا بينه و بين دمياط سلسلة غليظة تمنع سفن الافرنج من المرور . وقد
بسطنا ذلك في « تاريخ مصر الحديث » ، بقولنا :
« فجاؤا ( الصليبيون ) اليها بحرًا وحاصروا دمیاط في يوم الثلاثاء في ٤ ربیع اول
سنة ٦١٥ هـ وهم نحو ٧۰ الف فارس و ٤۰۰ الف راجل فخيموا تجاه دمیاط في البر
الغربي وحفروا على معسكرهم خندقاً واقاموا عليه سوراً وشرعوا في قتال برج دمياط
فانه كان برجاً منيعاً فيهِ سلاسل من حديد غلاظ تمتد على النيل لتمنع المراكب الواصلة في
البحر المالح من الدخول إلى ديار مصر في النيل . وكان البر الذي نزل عليه الصليبيون
جزيرة محاطة بالنيل من جهة وبالبحر المالح من الاخرى يقال لها جزيرة دمياط .
وكان المسلمون في مدينة دمياط محاصرين حصاراً منيعاً من البحر والبر والسلسلة ممتدة
بين البرج والسور . فحاول الصليبيون امتلاك ذلك البرج لانهم اذا ملكوه تمكنوا من
العبور في النيل إلى القاهرة . وكان هذا البرج مشحوناً بالمقاتلين تأتي اليه المؤن من
دمياط على جسر خشبي منصوب في عرض النيل . وبعد مدة انكسر ذلك الجسر
فاغتنم الصليبيون تلك الفرصة واصطنعوا برجاً خشبياً نصبوه على مركبين موسوقين
قيوداً وانزلوا اليه اقوى رجالهم واحسن عدتهم وساروا في النيل لمهاجمة برج المسلمين
فلما رأى المسلمون ذلك تجمهروا في البرج والسور واخذوا برمي السهام والحراب
والحجارة بالمنجنيق على برج الصليبيين فلعبت النار به فخاف الذين فيه ثم انطفأ حالاً
وتشدد الصليبيون حتى استولوا على برج المسلمين وطمعوا بالاستيلاء على دمياط »
وقد نشرنا صورة دخول الصليبيين البرج نقلاً عن مسودة قديمة في المكتبة الأهلية
في باريس كما ترى في هذا الشكل
دخول الصليبيين برج دمياط |
وكنا في شوق شديد الى رؤْية تلك الواقعة ممثلة في رسم يبين موقع البرج من
المدينة . ولم نكن نتوقع العثور على ذلك . لكن علي بك بهجت العالم الأثري ووكيل
المتحف العربي بمصر وفق إلى العثور على صورة بهذا المعنى في اثناء سیاحته في هولندا
بالصيف قبل الماضي . وقد فصل كيفية وقوفه على هذا الأثر النفيس بمقالة تليت في
المجمع العلمي المصري نلخص منها ما يأتي خدمة للتاريخ المصري واقرارًا بفضل حضرته
في التنقيب عن الآثار العربية
قال انهُ في اثنَاءِ سياحته في هولندا عثر في متحف هرلم على صورة للمصور ويرنجن
تمثل حصار الصليبيين دمياط فاستلفتت انتباهه وعلم ان ذلك المصوّر بناها على حكاية
كانت شائعة بين مواطنيه ينسبون اكثر الفوز فيها الى الهولنديين . وخلاصة حكايتهم
ان الدمياطيين كانوا قد اقاموا عند مدخل النيل برجاً حصيناً تمتدُّ منه تحت الماء سلسلة
غليظة من الحديد الى جسر آخر عند حصون المدينة لتمنع السفن من الوصول الى مجری
النيل والدخول منه إلى مصر . وان وليم الأول بن کونت هولندا تصور حيلة للخلاصْ
حصار دمياط تصوير ويرنجن |
من هذه العقبة فاصطنع منشارًا عظيماً من الحديد شده إلى مقدم سفينتهِ واغتنم اشتداد الريح ومد البحر
واطلق لسفينته الشراع نحو السلسلة فقطعتها وانفتح الطريق لسائر الأسطول . فمثل المصور هذه الحكاية
في الصورة التي نحن في صددها في أوائل القرن السابع عشر أي بعد نحو اربعمائة سنة من الحادثة .
فرسم البرج في النيل والسلسلة ممتدة منه إلى البرج الآخر على شاطئ دمياط وقد اشتدت
الريح وهاج النيل . واطلق ولیم لسفينته الشراع فدخلت مصب النيل حتى قطعت السلسلة
والمسلمون في اعلى البرج يرمون الهولنديين بالنبال والحجارة . وترى بين البرج ودمياط
من الجهة الاخرى جسرا من الخشب ينقل عليه المسلمون المؤُونة الى اصحاب البرج .
وقد تقدم في ما نقلناه عن تاريخ مصرالحديث ان الصليبيين اغتنموا انكسار هذا الجسر وهجموا
على برج المسلمين واخذوه .
ويقول المحدث الهولندي انهم قطعوا السلسلة بالمنشار
فلما وقف بهجت بك على هذه الصورة أهتم بها ونقلها بالفوتوغراف ودرسها فقرأ
ما ذكره عنها الموسيو كرونيك مدير ذلك المتحف من الملاحظات في سجلات المتحف.
واستزاده بیاناً فاخبره ان ویرنجن المصور ولد في هرلم وتوفي فيها سنة ١٦٤٣ م وهو
الذي رسم هذه الصورة وقد ذكرها صامويل امبزين في وصف هرلم سنة ١٦٤۸ م .
وشخص بهجت بك إلى لندن وقصد مكتبتها الشهيرة بالمسودات العربية وطلب من
الاستاذ سنوك هوسكرونجي أن يرشده إلى المصادر الهولندية التي تساعده على درس
هذه المسألة فأتاه بتاريخ الامة الهولندية للاستاذ بلوك ، فاستخرج منه فقرة تتعلق
بالهولنديين والحروب الصليبية هذه ترجمتها :
« ليس لدينا عن أعمال الهولنديين في الحروب الصليبية الا اخبار موجزة اما حملة
دمياط فان اخبارها اكثر اسهاباً . في ربيع سنة ۱۲۱۷ م سافر جماعة من الهولنديين
للاشتراك في الحملة الصليبية الجديدة بقيادة وليم الأول كونت هولندا . فرسا اسطولهم
اولاً في لشبونه فاستنجده البورتغاليون على المراكشيين . وفي ربيع السنة التالية
(۱۲۱۸) وصل الاسطول الى عكا وانضم إلى سائر جند المسيحيين هناك واجمع رأيهم
على مصر وفيها خيرة قوات المسلمين فاقلعوا اليها فوصلوا في مايو من تلك السنة الى
دمياط من مدن مصر الهامة . وكانت الحملة بقيادة كونت ساربروخ فحاصروا المدينة
وطال الحصار لان المسلمين كانوا قد تحصنوا في برج على جزيرة صغيرة في النيل .
فاحتال المسيحيون في أخذه بانهم جمعوا بين سفينتين من سفنهم شدوهما الواحدة إلى
الاخرى وبنوا عليهما برجاً من الخشب في طبقته العليا جسر كالمعبر ينتقل . وتقدموا الى
جسر السلسلة . ولما اقتربوا منه في ٢٤ اغسطس اسرع احد فرسان لياج وكان في
مقدمة الذين دخلوا برج المسلمين واخذوه . لكن مدينة دمياط نفسها لم يفتحها
المسيحيون الاَّ في نوفمبر سنة ۱۲۱۹ بعد ان باد اكثر اهلها . وذكروا ان المسلمين
كانوا قد اقاموا في عرض النيل سلسلتين من الحديد . وكان لحملة دمياط دويٌ في
هولندا ویروون في حصارها روايات خيالية . وكان اكثر الهولنديين ظهورًا في هذه
الحملة اهل هرلم وقرية دكوم » . ولم يذكر هذا المؤرخ حديث المنشار فكانه من
الخرافات المتناقلة على السنة العامة
واطلع بهجت بك في مكتبة ليدن على مؤلف آخر كتب لكنيسة جودا فيه
تفصیلات لم يذكرها سنوك منها خبر حصار دمياط بقيادة الامبراطور فريدريك
سنة ۱۱۸۸ ومعه كونت وليم بن الكونت فلوریس . فابلى بلاءً حسناً فكافأهُ ورقاه
واكرم الهولنديين فادخلهم تحت رايته وجعل لهم امتیازات أخرى . وعلم بهجت بك
بصورة على زجاج كنيسة جودا تمثل معركة دمياط رسمت سنة ۱٥۹٦ بامر مجلس قضاة
هرلم تذكارًا لبسالة اسلافهم الذين اشتركوا في فتح دمياط وهي تشبه الصورة المار
ذكرها من حيث شكل الابراج والسفن وغير ذلك نشرها في مقالته المشار اليها .
واكتفينا بنشر صورة ويرنجن لانها اوضح دلالة على تلك المعركة . فنثني على بهجت
بك لما يبذله من العناية في خدمة التاريخ الاسلامي
المصدر: الهلال - الجزء الخامس من السنة الحادية والعشرين - اول فبراير (شباط) سنة 1913 و24 صفر سنة 1331 - ص 294 الى ص 298 (رابط)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق