الحرم الداخلي في مسجد أبو حنيفة النعمان في الأعظمية في بغداد، العراق (مصدر الصورة) |
من كتاب: أبو حنيفة حياته وعصره - آراؤه وفقهه، تأليف الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، ص 206، 207
۲٥ - وآراء أبي حنيفة في الناس والاجتماع، وعلاقة العالم بالمجتمع
الذي يعيش فيه آراء عالم خبير بأحوال النفوس ، دارس لها ، متعمق في
دراستها ، فاحص لأحوالها ، قد ذاق حلوها ومرها ، وقد اشتملت وصيته
التي ودع بها تلميذه يوسف بن خالد السمتي على شيء كثير من محكم تفكيره ،
و ننقل لك زبداً منها فقد جاء فيها :
« اعلم أنك متى أسأت عشرة الناس صاروا لك أعداء ، وای كانوا لك
أمهات وآباء ، وإنك متى أحسنت عشرة قوم ليسوا لك بأقرباء صاروا لك
أمهات وآباء كأني وقد دخلت البصرة ، وأقبلت على المخالفة بها ، ورفعت
نفسك عليهم ، و تطاولت بعلمك لديهم ، وانقبضت عن معاشرتهم ومخالطتهم ،
وهجرتهم و هجروك وشتمتهم وشتموك ، وضللتهم وضللوك وبدعوك . واتصل
ذاك الشين بنا ، وبك ، واحتجت إلى الحرب والانتقال عنهم . وليس
هذا برأي ، إنه ليس بعاقل من لم يدار من ليس له من مداراته بد ، حتى
يجعل الله مخرجاً . . إذا دخلت البصرة استقبلك الناس وزاروك وعرفوا
حقك : فأنزل كل رجل منزلته ، وأكرم أهل الشرف . وعظم أهل العلم
ووقر الشيوخ ، ولاطف الأحدات ، وتقرب من العامة ودار الفجار ،
واصحب الأخيار ، ولا تتهاون بسلطان ، ولا تحقرن أحداً ، ولا تقصرن
في مروءتك ، ولا تخرجن سرك إلى أحد ، ولا تثق بصحبة أحد ، حتى
تمتحنه ، ولا تخادن خسیساً ، ولا وضيعاً ، ولا تألفن ما ينكر عليك في
ظاهره وإياك والانبساط إلى السفهاء . . . وعليك بالمدارة و الصبر والاحتمال
وحسن الخلق وسعة الصدر ، وأستجد ثياب کسوتك ، واستفره دابتك ،
وأكثر استعمال الطيب . . . وابذل طعامك . فإنه ما ساد بخيل قط ، ولتكن
لك بطانة تعرفك أخيار الناس . فمتى عرفت بفساد بادرت إلى صلاح . ومتى
عرفت بصلاح أزددت فيه رغبة وعناية ، واعمل في زيارة من يزورك .
ومن لا يزورك ، والإحسان إلى من يحسن إليك أو يسيء ، وخذ العفو وأمر
بالمعروف ، وتغافل عما لا يعنيك ، واترك كل ما يؤذيك وبادر في إقامة
الحقوق ، ومن مرض من إخوانك فعده بنفسك ، وتعاهده برسلك ومن
غاب منهم افتقدت أحواله ، ومن قعد منهم عنك فلا تقعد أنت عنه .
وأظهر تودداً للناس ما استطعت ، و أفش السلام . ولو على قوم لئام .. ومتى
جمع بينك وبين غيرك مجلس أو ضمك وإياهم مسجد ، وجرت المسائل ،
وخاضوا فيها بخلاف ما عندك ، لم تبد لهم خلافاً ، فإن سئلت عنها أخبرت
بما يعرفه القوم ، ثم تقول : فيها قول آخر ، وهو كذا وكذا ، والحجة له كذا . فإن
سمعوه منه عرفوا مقدار ذاك ومقدارك ، فإن قالوا هذا قول من؟ قل بعض
الفقهاء. إذا استمروا على ذلك وألفوه ، عرفوا مقدارك وعظموا محلك ،
وأعط كل من يختلف إليك نوعاً من العلم ينظرون فيه ، ويأخذ كل واحد
منهم بحفظ شيء منه ، وخذهم بجلي العلم دون دقيقه ، و آنسهم ومازحهم
أحياناً ، وحادثهم ، فإن المودة تستديم مواظبة العلم وأطعمهم أحياناً ؛
واقض حوائجهم ، واعرف مقدارهم ؛ وتغافل عن زلاتهم ، وارفق بهم
وسامحهم ، ولا تبد لأحد منهم ضيق صدر أو ضجر ؛ وكن كواحد منهم .
واستعن على نفسك بالصيانة لها ، والمراقبة لأحوالها . . . ولا تكلف الناس
ما لا يطيقونه ، وارض لهم ما رضوا لأنفسهم ، وقدم إليهم حسن النية ،
واستعمل الصدق ، واطرح الكبر جانباً ، وإياك والغدر ، وان غدروا بك ؛
وأد الأمانة وإن خانوك ، وتمسك بالوفاء ، و اعتصم بالتقوى ، وعاشر أهل
الأديان ، وأحسن معاشرتهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق