الخميس، 11 أغسطس 2022

أمير وإمارة على ضفاف بحيرة تنيس «المنزلة» بقلم: طارق إبراهيم الحسيني

أمير وإمارة على ضفاف بحيرة تنيس
أمير وإمارة على ضفاف بحيرة تنيس


أمير وإمارة على ضفاف بحيرة تنيس «المنزلة»
بقلم: طارق إبراهيم الحسيني



عند نهاية القرن الثاني من الهجرة والسنوات العشر الأولى من القرن الثالث استطاع عبد العزيز ابن الوزير الجَرَوِي (*) وأولاده إقامة إمارة على ساحل مصر الشمالي متخذين من مدينة تنیس کرسیَا لحكم الإمارة التي امتدت من الفرما شرقًا إلى فرع رشید غربًا، ومن بلبيس جنوبًا إلى ساحل مصر الشمالي، بل وصل نفوذها إلى الإسكندرية غربًا، وامتد حتى رأس الدلتا عند الفسطاط جنوبًا.

وعبد العزيز ابن الوزير أشهر الجرويين على الإطلاق، دعاه ابن دقماق ب «ملك الساحل»، وكان أول ظهور له في عام ۱۹۱ هـ/ ۸۰٦م؛ إذ أرسله الحسين بن جميل والي مصر على رأس جيش للقضاء على عصابة أبي الندى، وكان النصر حليفه في موقعة «آيلة» على البحر الأحمر، ثم ظهر ثانية في عام ١٩٤ هـ/ ۸۰۹م في ولاية حاتم بن هرثمة إذ خرج عليه أهل «نَتْو ونُمَى» في الجيزة و ميت غمر. وألفوا جيشًا جعلوا على رأسه عثمان بن مستنير الجذامي، فبعث إليهم بالسَّري بن الحكم وعبد العزيز الجروي وعبد العزيز بن الجبار الأزدي لإخضاعهم، فاقتتلوا وانهزم عثمان بن مستنير ورجع حاتم إلى الفسطاط منتصرا.

ولما ثارت الفتنة بين الأمين والمأمون ولدي الخليفة هارون الرشيد بسبب ولاية العهد، عمت الاضطرابات أنحاء الدولة العباسية وتحزب بمصر فريق للأمين وآخر للمأمون، وظهرت معها رغبة بعض الشخصيات في الاستقلال بمصر، فقرر فريق من الجند خلع الأمين غضبا للمأمون، وتزعم هذه الحركة السري بن الحكم بن يوسف. وكتب المأمون إلى أشراف مصر يدعوهم إلى القيام بدعوته فأجابوه و بايعوه في رجب سنة ۱۹٦ هـ/ ۸۱۱م، ووثبوا بجابر بن الأشعث الطائي والي مصر

فأخرجوه وولوا عبادة بن محمد. فكتب محمد الأمين إلى رؤساء الحوف بولاية ربيعة بن قيس الجرشي فانقاد أهل الحوف كلهم معه يمنها وقيسها، وأظهروا دعوة الأمين و خلع المأمون وساروا إلى الفسطاط لمحاربة أهلها. فعقد عبادة بن محمد لعبد العزيز الجروي و أرسله في جيش لقتال خصومه. فخرج في ذي القعدة سنة ۱۹۷ هـ/ ۸۱۲م لقتالهم فانهزم الجروي ومضى في قومه من جذام وأتباعه إلى فاقوس وحينئذ لامه قومه، وقالوا: «لِم لا تدعو لنفسك فما أنت بدون هؤلاء الَّذين غلبوا على الأرض».

فصادف ذلك هوًى في نفس الجروي، ومضى فيهم إلى تنیس، فنزلها ثم بعث بعماله يجبون الخراج من مصر السفلى. ويبدو أن النزاع في مصر لأجل الأمين والمأمون بدأ يتطور إلى نزاع للاستئثار بالسلطة. وفي تلك الأثناء قتل الأمين وولي إمرة مصر المطلب بن عبد الله الخزاعي من قبل المأمون، فولي عبد العزيز الجروي شرطته ثم عزله ثم صرف المطلب، وفي شوال ۱۹۸ هـ/ ۸۱۳م ولى المأمون العباس بن موسى العباسي على مصر، فقدمها ابنه عبد الله نائبًا عنه وجعل على الشرطة محمد ابن عسامة المعافري ثم عزله وجعل مكانه عبد العزيز ابن الوزير الجروي.

وثار أهل مصر على عبد الله بن العباس وخلعوه وأعادوا المطلب في المحرم ۱۹۹ هـ/ ٨۱٤م. ولما كان الجروي من أنصار عبد الله هرب إلى تنیس وأقبل العباس بن موسی من مكة إلى الحوف فنزل بلبيس ودعا قيسًا إلى نصرته ثم مضى إلى الجروي بتنیس فشاوره فأشار عليه أن ينزل دار قیس فرجع العباس إلى بلبيس في جمادى الآخرة ۱۹۹ هـ/ ٨۱٤م فما لبث أن مات بها. 

أراد المطلب استرضاء الأطراف الثائرة بمصر بعد موت العباس، فكاتب أهل الحوف فأجابوه فولى عليهم يزيد بن خطاب الكلبي، ثم بعث إلى عبد العزيز الجروي يوليه تنیس ويأمره بالحضور إلى الفسطاط، ولكن الجروي ظن أن في الأمر مكيدة تدبر له فامتنع؛ فبعث المطلب بوالٍ آخر على تنیس فمنعه الجروي منها، فبعث إليه المطلب بالسري بن الحكم في جمع من الجند يسألونه الصلح فأجابهم إليه إلا أنه اجتهد في الغدر بهم ففطنوا إلى ذلك وحاربوه ثم عاد فدعاهم إلى الصلح ولجا إلى خدعة استطاع بها أن يقبض على السري ويأسره ويسجنه بتنیس في جمادى الأولى سنة ۱۹۹ هـ/ ۸۱٥م. 

فبعث المطلب جيشًا على رأسه ابن عبد الغفار الجمحي لمقاتلة الجروي فلقيهم الجروي بسفط سليط من المنوفية في
رجب ۱۹۹ هـ/ ٨۱٤م، فهزمهم وأسر ابن عبد الغفار. وهنا جد المطلب في أمر عبد العزيز الجروي ووجه كل قوته للقضاء عليه، فعلم بذلك ورأى الالتجاء إلى الحيلة؛ فأخرج السري بن الحكم من سجنه واتفق معه أن يطلقه من سجنه ويلقي إلى أهل مصر أن رسالة وردت من الخليفة بولايته على أن يثور بالمطلب ويخلعه فعاهد السري على ذلك واتفقا فيما بينهما على أن يترك كل منهما لحليفه ما تحت يديه، وعند ذلك أطلقه الجروي وأعلن ولايته فبايعه الجند من أهل خراسان وامتنع الجند العرب ووقعت حروب بين السري والمطلب انتهت إلى طلب المطلب الأمان من السري فأمنه واستبد بأمر مصر.

هكذا قسمت مصر بين الخارجين على الخلافة و الطامحين في الولاية؛ فالجروي كان صاحب السلطة الفعلية في شرق الدلتا 
متخذًا من تنیس مكانًا لبسط نفوذه وسلطانه، كما كان صاحب الفضل في تولية السري بن الحكم الولاية ليتخلص من المطلب ابن عبد الله. 

أما عن الإسكندرية في ولاية المطلب بن عبد الله الثانية (۱۹۹ - ۲۰۰ هـ / ٨۱٤ - ۸۱٥ م) فقد ولي عليها محمد بن هبيرة، فاستخلف محمد عمر بن عبد الملك بن معاوية المعروف بعمر بن هلال، فوليها ثلاثة أشهر ثم عزله المطلب وولى عليها 
أخاه الفضل، فاغتنم الجروي الفرصة وكاتب عمر بن هلال يأمره بالوثوب على الإسكندرية وإخراج الفضل والدعاء له بها
وعلى أن يقدم له العون، فاستعان عمر بجماعة من الأندلسيين كانوا قد طردوا من بلادهم في حكم الحكم بن هشام الأموي 
على أثر واقعة الربض بقرطبة عام ۱۹۸ هـ/ ۸۱۳م، وسرعان ما لبوا طلبه واستطاع أن يخرج الفضل ويدعو للجروي. إلا أن أهل الإسكندرية ثاروا ضد الأندلسيين وأخرجوهم وخلعوا عمر وردوا الفضل فدعا للمطلب. وما لبث المطلب أن عزل 
أخاه وولي أبا بكر بن جنادة بن عيسى المعافري فوثب عمر بن هلال على أبي بكر مستغلًا الاتفاق الذي تم بين السري والجروي وانتصار السري وولايته مصر سنة ۲۰۰ هـ/ ۸۱٥م، فأخرج أبا بکر بن جنادة ودعا للجروي بها فتركها له السري بن الحكم وفقًا للعقد الذي تم بينهما.

وأقبل الأندلسيون على عمر بن هلال فأذن لهم بدخول الإسكندرية، ولكن ما لبثوا أن أشاعوا فيها الاضطراب فأمر 
بإخراجهم منها فحقدوا عليه واتحدوا مع طائفة تعرف بالصوفية واتخذوا رئيسًا منهم يقال له أبو عبد الرحمن الصوفي، ثم 
ساروا إلى عمر بن هلال وحاصروه في مقره وانتهى الأمر بقتله سنة ۲۰۰هـ/ ۸۱٥م.

ثار أهل الاسكندرية أكثر من مرة على الفساد الذي استشرى في مدينتهم فناهضهم الأندلسيون وحرقوا أحياء المدينة، واضطر مرقس الثاني إلى الهرب منها واتصل بعبد العزيز الجروي وشکا له ما هم فيه؛ كما بلغه ما فعله الأندلسيون ومقتل ابن هلال فسار إليها في خمسين ألفًا وحاصرها وكاد يدخلها في المحرم ۲۰۱ هـ/ ۸۱٦م. وعند ذلك خشي السري بن الحكم أن ينتصر الجروي وتزداد قوته فنقض العهد الذي بينهما وبعث عمرو ابن وهب الخزاعي على رأس جيش إلى تنیس حاضرة الجروي ليستولي عليها في غيبته وانشغاله، فاضطر عبد العزيز إلى فك حصاره والعودة إلى تنیس، وأخرج جيش السري من تنیس وفسد ما بينه وبين السري؛ ومن ثم تطورت المنافسة الخفية بين الجروي والسري إلى نزاع علني بينهما.

وعندما ثار إبراهيم بن المهدي بالمأمون حين اتخذ علي بن موسى الرضا وليًا للعهد کاتب إبراهيم وجوه الجند بمصر يطلب إليهم خلع المأمون وولي عهده والوثوب بالسري بن الحكم والي مصر من قبل المأمون، فقام بدعوته الحارث بن زرعة بالفسطاط وسلامة بن عبد الملك الطحاوي بالصعيد وعبد العزيز الجروي بالوجه البحري واتفق الجمع على خلع السري بن الحكم. ونشبت المعارك المتصلة بين الجيوش المختصمة في أنحاء مختلفة من البلاد، وحالف النصر السري بن الحكم في أكثر المواقع وعبد العزيز الجروي في قليل منها.
ولما علم الجند بموت علي الرضا وانحياز إبراهيم بن المهدي أظهروا بيعة المأمون، كما ورد کتاب المأمون إلى السري بذلك؛ فانتهز الأندلسيون الفرصة فأخرجوا عامل الجروي من الإسكندرية ودعوا إلى السري بن الحكم، فسار إليهم الجروي في رمضان ۲۰۳هـ/ ۸۱۸م؛ على أن القبط بسخا ثاروا ضده وانضم إليهم بنو مدلج فهزمهم الجروي وهرب بنو مدلج، ثم بعث الجروي بجيوش إلى الإسكندرية لمحاصرتها.

كذلك جمع الجروي قمح أرض مصر ووضعه في الأهراء تحت تصرفه، حتى ندر القمح وعز وجوده، فحدثت مجاعة كبيرة بسبب ذلك لا سيما بالإسكندرية، وكان يرمي من وراء ذلك إلى أن تسلم إليه البلاد جميعها، لكن السري بن الحكم أفسد على الجروي خططه فأرسل جيشا في ذي القعدة سنة ۲۰۳هـ/ ۸۱۹م إلى بلاد الصعيد لاستخلاصها منه، فمنعهم سلامة بن عبد الملك الطحاوي حليف الجروي بالصعيد، وسار عبد العزيز الجروي لحصار الإسكندرية للمرة الرابعة فأغلق الأندلسيون حصنها لكن الجروي حاصرهم حصارًا شديدًا فاشتد الغلاء بها حتى صارت ويبة القمح بدينارين و درهم؛ ولم يجد أهلها ما يشترونه حتی أكلوا دوابهم من الجوع؛ وأخذ يضرب الحصن بالمنجنيق وظل على ذلك سبعة أشهر من بداية شعبان سنة ٤۲۰هـ/ ۸۱۹م إلى آخر صفر ۲۰٥هـ/ ۸۲۰م. وانتهى الأمر بقتل الجروي أثناء الحصار حيث أصابته فلقة من حجر المنجنيق فخر صريعًا، وبعده مات السري بن الحكم في جمادى الأولى من السنة نفسها بعد أن ولي مصر ثلاث سنين وتسعة أشهر.

وبايع الجند سنة ۲۰٦هـ/ ۸۲۱م عبيد الله بن السري بعد وفاة أخيه أبي نصر خلف والده. وورث أبناء السري وأبناء الجروي نزاع والديهما، فكان بيد عبيد الله بن السري من أرض مصر الفسطاط والصعيد وغرب الدلتا، وكان بيد علي بن عبد العزيز الجروي بقية الوجه البحري بما في ذلك الحوف الشرقي. ولم يتعرض كلٌّ منهما للآخر حتى انتهت سنة ۲۰٦هـ/ ۸۲۱م حين عقد المأمون لمخلد بن يزيد؛ فامتنع عبد الله عن التسليم له واحتج بأن كتاب المأمون قد ورد إليه بولايته هو واستعد عبيد الله لحرب خالد، وانتهى الأمر بأسر خالد بن یزید. وأرسل المأمون رسولًا من قبله يقر عبيد الله على ما بيده ويقر علي بن الجروي على ما بيده. وحدث نزاع بعد ذلك بين علي بن الجروي وعبيد الله بن السري؛ فأرسل عبيد الله بن السري أخاه أحمد في سنة ۲۰۷ هـ/ ۸۲۲م فوقعت حروب بينهما كان نتيجتها أن دخل عبيد الله تنیس مقر ولاية الجروي وهرب علي بن الجروي إلى الفرما ثم إلى العريش في ربيع سنة ۲۰۹هـ / ۸۲٤م؛ أي إن مصر كلها خضعت لعبيد الله بن السري؛ وإن حدثت مناوشات وحروب بينه وبين ابن الجروي.

وبينما هما كذلك قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين موفدًا من قبل الخليفة المأمون ليقضي على تلك الفوضى التي سادت مصر منذ نحو إحدى عشرة سنة كادت مصر أن تكون مستقلة عن الخلافة، سار عبد الله بن طاهر في قواته بطريق البر في حين أقبلت بعده سفن الشام، وكان ابن الجروي سباقًا لاستقبال ابن طاهر فعينه على الأسطول لمعرفته بالحروب البحرية. ويقول المقريزي: «قدم عبد الله بن طاهر فتلقاه ابن الجروي بالأموال والإنزال، وانضم إليه ونزل معه بلبيس. أما ابن السري فحاول الاحتفاظ بولايته، وعارض عبد الله بن طاهر بعض الوقت، ولكنه ترك مصر في آخر الأمر، وصار إلى بغداد في جمادی الأولى سنة ۲۱۱ هـ/ ۸۲٦م. وانتهت دولة آل السري والجروي معًا، وأخرج عبد الله بن طاهر الجميع معه إلى العراق».

وهكذا تمكن عبد العزيز الجروي وولده من إقامة إمارة تمتد على طول ساحل مصر الشمالي وكانت تبسط سلطانها على الاسكندرية ومدت سيطرتها جنوبًا حتى بلبيس بل إلى أبواب الفسطاط، واستولت على الصعيد ولم تترك لآل السري إلا بقعة صغيرة حول الفسطاط، وامتدت هذه المملكة من الزمن منذ المحرم ۱۹۹ هـ/ ٨۱٤م إلى أواخر ۲۱۰هـ/ ۸۲٥م أي ما يقرب من اثنتي عشرة سنة.
حقًا، إننا أمام إمارة تنشأ على ساحل مصر الشمالي، دون إذن من خليفة؛ وإنما يضطر الخليفة إلى الاعتراف بها ويرث هذه الإمارة ابن عن أب ويسيران أمورها مستقلين عن السلطة المحلية في الفسطاط وعن السلطة الكبرى في بغداد. والحق كانت إمارة صغيرة وضعيفة تضطر إلى الاعتماد على الحيلة والخداع وموقع مدينة تنيس الحصين وبعدها التام المأمون عن العاصمة. لكن ذلك لا يحرمها حقها في الإمارة؛ فإمارة الجرويين أو مملكة الساحل هي أول إمارة مصرية صميمة على قسط من الاستقلال في مصر الإسلامية، وعبد العزيز الجروي أول مصري يؤلف إمارة مصرية.

صهريج الجروي
صهريج الجروي




ومما لا شك فيه أن إمارة آل الجروي كانت حدثًا سياسيًا هامًا وكان لها الأثر الهام في حاضرة الإمارة تنیس وسكانها؛ حيث ألقت الضوء على أهمية موقع تنیس العسكري الحصين. وقد أدى ذلك إلى ازدياد عدد الجنود المسلمين المقيمين بين السكان الأقباط المدنيين؛ الأمر الذي أدى إلى حدوث تغيير في التكوين الديني والعرقي للسكان، وكذلك السياسات المدنية حيث اتسعت المدينة بشكل كبير. وبدا ذلك من خلال إنشاءات عبد العزيز الجروي للبنية التحتية في المدينة؛ من خلال إقامته عددا من الصهاريج والسواقي لتزويد المدينة بالماء العذب.

هذا بالإضافة إلى الصهريج الذي تحدث عنه ابن بسام، وقد ذكر أربع مجموعات من الإنشاءات الخاصة بتخزين المياه في المدينة يعنيني منها: «... مصنع مسقوف وسط المدينة بناه عبد العزيز الجروي، ينقل إليه الماء على دولاب يشتمل عليه ستون قادوسًا مدة شهرين كاملين بلياليهما، يسع كلُّ قادوس في تفريغه في يوم وليلة ألف جرة، ملأ كل جرة أقساط من ماء فيكون هذا المصنع ثلاثة آلاف ألف ألف جرة وستمائة جرة، وقدم تقديرًا لسعة الصهريج بأنها ثلاثة بلايين وتسعمائة جرة»، ولو أن الأرقام الأولية صحيحة لكانت ثلاثة ملايين جرة فقط.


عبد العزيز ابن الوزير الجروي والاكتشافات الأثرية


دار عبد العزيز الجروي بتنيس
دار عبد العزيز الجروي بتنيس


أسفرت الحفائر عن اكتشافات عدة تنسب لعبد العزيز الجروي أهمها كانت مجموعة من المباني محاطة بسور أطلق عليها منزل الحاكم. جاء هذا الاسم لأنه أثناء الحفر في هذه المنطقة عثر بجوار السور على لوحة من الرخام محفور عليها اسم عبد العزيز ابن الوزير الجروي القائد. وتتكون هذه المجموعة من المباني من سور كبير يمتد من الجنوب إلى الشمال بطول ۱۹ مترًا وارتفاع ۱٫٥۰متر، مبني بالآجر، وما زال بقية السور في هذا الضلع تحت الرديم ولم يتم الكشف عن آخره حتى الآن. هناك أيضًا جزء كبير من السور من الناحية الغربية ما زال تحت الرديم؛ أما ما تم الكشف عنه من مبانٍ داخل السور فهو عبارة عن جدران ثلاث غرف عرض جدرانها قرابة ٦٠ سم، وارتفاعها متران، وفي الناحية الشمالية الغربية من الغرف الثلاثة توجد حجرة صغيرة مشتركة بجدار مع الغرفة الغربية ربما كانت دورة المياه الخاصة بالمجموعة. ويلتصق بسور هذه المجموعة من الناحية الغربية بئر مربعة بعمق مترين بمنتصفها فتحتان في الناحية الغربية كانتا متصلتين بقنوات مائية تغذي وحدات الدار الأخرى، كما يقع أسفل هذه المجموعة صهريج مزود بعدد من القنوات تجري من الشمال إلى الجنوب وتمر عبر السور الخارجي الذي يحيط بوحدات المنزل قبل الوصول إلى باطن الصهريج. والصهريج بناء مستطيل مسقوف يمتد من الشرق إلى الغرب بطول ٧٫٤۰م وعرض ٤۰,٥م من الداخل، ويتكون من الداخل من صفين من الأعمدة كلُّ صف من ثلاثة أعمدة، ويمتطي هذه الأعمدة والعقود سقف الصهريج المكون من أقبية متقاطعة. هذا، وقد سقط جزء كبير من السقف. والصهريج مشيد كله بالآجر وبطنت جوانبه من الداخل وكذا الأعمدة والسقف بطبقة من الملاط شديد الصلابة، كذلك تم العثور داخل هذا الصهريج على عمودين من الرخام أسطوانيين، وليس هناك شك في أن وجود هذين العمودين ووضعهما بهذه الكيفية داخل الصهريج له علاقة بوحدات المبنى السابق المقام أعلاه؛ وهذا ما يدفعنا إلى القول إن هذه المنشأة كانت تمثل دار الإمارة، على الأقل في الفترة التي سيطر فيها عبد العزيز الجروي على مسرح الأحداث في مصر.

نقش کتابي من دار عبد العزيز ابن الوزير الجروي بتنیس

نقش کتابي من دار عبد العزيز ابن الوزير الجروي بتنیس
نقش کتابي من دار عبد العزيز ابن الوزير الجروي بتنیس



لما كانت الكتابات العربية بصفة عامة والنصوص التأسيسية على العمائر الإسلامية بصفة خاصة وثائق على درجة كبيرة من الأهمية، كان من أهم ما تم الكشف عنه من خلال حفائر تنیس لوحة من الرخام الأبيض مكونة من جزأين هلاليي الشكل؛ الجزء العلوي مكسور في جزء منه طوله ٨ سم وأقصى عرضه ٦ سم والجزء السفلي يبلغ طوله ۱۳ سم وعرضه ٧ سم. وهي تشكل بجزأيها شكلًا دائریًا غير منتظم الحواف، حفر عليها كتابات بالخط الكوفي البسيط. تبدو بدايات الحروف جامدة مثل نهايتها وتخلو اللوحة من اسم الخطاط، وهي غير مؤرخة، ونفذت بطريقة الحفر الغائر. وجاء نصها في أربعة أسطر على النحو التالي: 

الجزء العلوي:
السطر الأول «له بركة»، والجزء العلوي السطر الثاني 
«...هـ ..ذه الدار لعبد ». 
الجزء السفلي:
السطر الثالث «العزيز بن الوزير»، والجزء العلوي السطر الرابع «الجروي القائد».

لا شك في أن الخط والكتابة على هذه اللوحة لهما دور تسجيلي هام من حيث القيمة التاريخية و العلمية والأثرية؛ حيث تعد هذه اللوحة إضافة ووثيقة هامة لنص على إحدى دور مدينة تنيس في نهاية القرن الثاني الهجري، كما تعد الأقدم من نوعها في الآثار الإسلامية بمصر ونموذجًا فريدًا لهذا العصر. كذلك تلقي الضوء على بعض المظاهر الاجتماعية؛ من حرص علية القوم على إبراز أهمية بيوتهم أو دورهم، عندما قرر أحدهم وضع لوحة تحمل اسمه ولقبه على المنزل كما نفعل نحن الآن.

أما أهمية النقش من حيث المضمون فنجد أن الجزء العلوي من اللوحة مفقود، وأول ما نقرأه في السطر الأول «له بركة»، وعادة ما كانت النصوص التأسيسية تبدأ بالدعاء لصاحب الدار أو المنشأة. والبركة هنا دعاء بمعنى النماء والزيادة والمباركة. أما السطر الثاني فنقرأ فيه كلمة «الدار»، والدار في اللغة لفظ مؤنث معنى الموضع والمثوى والبيت والديوان، وقد استعمل على سبيل الكناية كلقب فخري. وفي الاصطلاح دار لفظ فارسي مأخوذ من المصدر راستن الذي يعني التملك والتصرف؛ وهذا ما يعنيه هذا اللفظ على اللوحة. أما السطر الثالث فيطالعنا اسم صاحب الدار «عبد العزيز بن الوزير». وقد تضمن السطر الرابع أحد ألقابه وهو «القائد». وقد عرفت القيادة عند العرب قبل الإسلام، وكانت تعني إمارة الركب، وكان صاحبها يتقدم الركب في الأسفار سواء للقتال أو للتجارة، ومن هنا صار القائد اسمًا لمن يتولى قيادة الجيش، وأصبح لفظ قائد يدل في الوقت نفسه على رتبة في الجيش منذ تنظيمه بشكل ثابت.
«فلس» عبد العزيز ابن الوزير الجروي والسري بن الحكم

سجلت كتابات الفلوس العباسية في مصر التي تلت الترتيب التاريخي فلوس « محفوظ بن سلیمان» ما يفيد استقلال السري بن الحكم والي مصر وصاحب خراجها (۲۰۰ - ۲۰٥هـ). وقد ظهر اسم السري بن الحكم على فلوس مصرية عباسية مع عبد العزيز ابن الوزير الجروي وقد نشر Castiglione واحدًا من هذه الفلوس كما نشر مايلز Miles قطعة أخرى محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس تحمل اسم عبد العزيز الجروي أيضًا، وهناك فلس آخر يحمل اسم السري بن الحكم مع ولي عهده محمد أبي نصر بن السري، كذلك يضم متحف برلين فلسًا يحمل اسم «السري» و «على يدي».

أما عن الفلس الذي تم العثور عليه فهو مشابه تمامًا للفلس المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس، وربما يكون الفلس الوحيد المحفوظ بمصر. وهو فلس من النحاس، كتاباته منتظمة في خطوط أفقية مركزية تسير على كلا الوجهين في أسطر ثلاثة، ويحيط بها في هامش خارجي على الوجه سطر دائري تدور كتاباته عكس اتجاه عقرب الساعة.

مركز الوجه: 
مما أمر به الأمير السري بن الحكم. 
هامش الوجه:
الكتابات مطموسة، ولا يظهر إلا حرف الحاء والدال من كلمة «وحده».
مركز الظهر: 
على يدي عبد العزيز بن الوزير الجروي

صور نقود تحمل اسم السري بن الحكم
صور نقود تحمل اسم السري بن الحكم



ويلاحظ على الكتابات المركزية في الظهر والوجه أن بعض الحروف مفقودة؛ وذلك للتأكل الذي أصاب النحاس فأدى إلى فقدان بعض الحروف. ومن الواضح أن الفلس ضرب بالقالب كما يتضح من سبكه أنه مصبوب على هيئة قرص وضرب بالقالب المحفور من الوجهين. هذا، ويمكن إرجاع تاریخ ضرب هذا الفلس في إمارة السري بن الحكم الأولى التي لم تزد على ستة أشهر من رمضان سنة ۲۰۰هـ/ ۸۱٥م إلى ربيع سنة ۲۰۱هـ/ ۸۱٦م؛ وذلك لعدة أسباب أهمها عدم استقرار البلاد والنزاع بين السري بن الحكم وعبد العزيز الجروي إلا خلال هذه الفترة ذلك على أثر إطلاق عبد العزيز الجروي للسري من محبسه في تنیس والاتفاق معه على خلع المطلب من الولاية بعد أن أعلن الجروي والسري أن كتابا ورد من بغداد بولاية السري وذلك في إثر الاتفاق بين السري والجروي على أن يترك كلٌّ منهما للآخر ما تحت يديه. كذلك لم يذكر أحد من المؤرخين صراحة أن عبد العزيز الجروي قد ولى الشرطة للسري بن الحكم، وإن استند البعض من الكتاب المحدثين إلى أن عبد العزيز قد ولى الشرطة للسري استنادًا إلى هذه الفلوس؛ فغالبا ما كان يذكر اسم الأمير على الوجه وصاحب شرطته على الظهر مسبوقًا بكلمة «على يدي»، وإن كان غير ضروري أن نجد اسم صاحب الشرطة على الفلوس. فقد يكون صاحب الخراج أو ولي العهد كما في الفلس الذي يحمل اسم السري ومحمد أبي نصر بن السري، كذلك عبد العزيز الجروي تولى الشرطة مرتين لغير السري بن الحكم، في إمارة المطلب بن عبد الله الخزاعي عام ۱۹۸ هـ ، وفي إمارة العباس ابن موسی من عام ۱۹۸ إلى ۱۹۹ هـ، ولم يرد اسم عبد العزيز الجروي على فلوس لهما.
___________________
(*) الجروي نسبة إلى بني جرِيّ بطن من جُذَام، وهي قبيلة كانت تسكن المنطقة الواقعة بين الحجاز والشام ومصر. عاونت في فتوح الشام معاونة لها قيمتها. وقدم جماعة منها مع عمرو بن العاص، وشهدوا فتوح مصر، ثم اختلطوا بقبيلة لخم، ونزلوا معًا في طرابية وقُربْيط وصان وأبليل والعريش؛ و نزل بنو جري بالفرما و البقارة والوردة، وكلها حول مركز فاقوس من مديرية الشرقية، وعلى الساحل الشمالي لشبه جزيرة سيناء.


المصدر: مقالة من مجلة ذاكرة مصر عدد 30 يوليو 2017.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق