|
مصر عند مفترق الطرق |
بحث قيم جدا للدكتور محمد شفيق غربال عن الأسئلة التي وجهها ضباط الحملة الفرنسية للاستعلام عن مالية وشئون مصر الإدارية وأجوبة حسين أفندي الروزنامجي عليها.
وهذه مقدمة البحث الذي كتبه الدكتور شفيق غربال:
مصر عند مفترق الطرق
1798 - 1801
(المقالة الأولى)
ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية
كما شرحه حسين أفندي أحد أفندية الروزنامة في عهد الحملة الفرنسية
تمهيد :
بلغت مصر في السنوات من 1798 إلى 1801 مفرق الطرق . فقد ختم
الاحتلال الفرنسي في تلك السنين عهداً من تاريخها ومهد لعهد آخر ؛ لعهد
محمد علي وخلفائه .
وقد خلف فرنسيو حملة بونابرت - من علماء ورجال حرب وسياسة وإدارة -
الشيء الكثير عن مصر كما وجدوها ، ويستطيع الباحث في تاريخ مصر
العثمانية أن يصور لنفسه - بواسطة ما خلفه الفرنسيون - مصر في ختام العهد
المملوكي العثماني وأن يتدرج بأبحاثه من ذلك الموضع إلى موضع سابق له حتى
يصل للفتح العثماني نفسه . كما أن الباحث في تاريخ مصر الحديثة لا يجد موضعاً
يبدأ منه عمله خيراً من ذلك الموضع ، وهو لا يستطيع بغير ذلك أن يدرك مدى التطور
الذى حدث في القرن التاسع عشر .
وسنحاول في هذه المقالة وأخواتها تصوير مصر عند مفرق الطرق ، وأن
يكون هذا التصوير عن طريق عرض طائفة من الوثائق الأصلية عرضاً مصحوباً بالشرح الوافي ، والتحليل الدقيق .
التعريف بحسين أفندي وأجوبته :
لما تولى الفرنسيون حكم مصر كان مما اهتموا به أكبر اهتمام أن يعرفوا
طرق حكمها، ونظم أرضها وجباية أموالها حرص على هذا رجال الإدارة منهم
كما حرص عليه العلماء ، فمن الأولين بوسيلج Poussielgue مدير المالية ، أو
كما عرفه المصريون إذ ذاك “بوسليك " مدير الحدود ، ثم خليفته في الإدارة
المالية استيف Estêve، ومن الآخرين لانكريه lancret وجيرار Girard
المهندسان وعضوا المجمع المصري .
وقد عانوا في هذا السبيل أشد العناء. وذلك أنه عند قدوم بونابرت غادر
البلاد الباشا العثماني، وصحبه في فراره الروزنامي، كبير الإدارة المالية،
وقد أدى هذا القرار وسقوط الحكومة القائمة، وهزيمة المماليك إلى شيء كثير من اختلال الأحوال واضطراب الأمور. هذا إلى أن جل المباشرين للشئون المالية، وبخاصة الأقباط منهم ، كانوا حريصين على أن لا يفضوا بما عندهم من أسرار مهنتهم،
فهم - من جهة - لم يطمئنوا بعد إلى استقرار الأمر للفرنسيين، وهم - من جهة أخرى - يريدون بقاء تصريف هذه الشؤون في أيديهم.
وقد روى استيف نفسه أنه لما تملكه اليأس من فرط مراوغتهم تحايل حتى جمع عددا منهم في منزله، وأغلق الأبواب وأبقاهم في منزله في الأسر ثلاثة شهور اضطروا في خلالها إلى أن يقدموا له بيانا دقيقا بما هو مربوط على البلاد من أنواع الأموال بلداً بلدا ً.
ولكن استيف وأقرانه لم يلقوا من بعض شيوخ القاهرة ، وكبار أهل الديوان
كل هذا الاعنات ، واستطاع لانكريه بفضلهم أن يضع مقالته في نظام ضرائب الأرض الزراعية وحكومة بلاد الأرياف المنشورة في كتاب وصف مصر.
كما استفاد منهم استيف في تحرير مقالته المستفيضة في مالية مصر من الفتح العثماني إلى الفتح الفرنسي المنشورة في نفس الكتاب .
وكان ممن أعان استيف بكل ما يعلم حسين أفندى من رجال الروزنامة -
فأجاب على الأسئلة التي وجهها إليه ونظم إجاباته في ستة عشر بابا .
وكان هذا في 13 محرم سنة 1216 أو أواخر مايو سنة 1801 أي قرب انتهاء العهد الفرنسي .
وهاك بيان هذه الأبواب كما وردت في الأصل :
الباب الأول : في تعريف القاهرة ( وبعبارة أصح باشوية مصر ) ونظامها
وأمرائها
الباب الثاني : في تعريف صناجق مصر وعدتهم وخدمتهم .
الباب الثالث في تعريف الأوجاقات السبعة وأسمائها ،
الباب الرابع في تعريف الحكام القاطعين بالأحكام الشرعية مثل القاضي وغيره ،
الباب الخامس في تعريف الأفندية وخدمتهم ،
الباب السادس في تعريف الولايات وبلاد الأقاليم المصرية،
الباب السابع في تعريف التزام الملتزمين ،
الباب الثامن في تعريف الأراضي ووضع يد الملوك عليها ،
الباب التاسع في تعريف البلاد وضبط أطيانها حين تداولت هذه المملكة إلى السلطان سليم ،
الباب العاشر في تعريف الميري وتمكين الملتزم من الالتزام ،
الباب الحادي عشر في تعريف تمكين الملتزمين في الالتزام والفلاحين من الأراضي ،
الباب الثانى عشر في تعريف مقدار الميري إلى غاية تحرير حسن باشا كان قدره أي شيء ، والآن قدره أي شيء ،
الباب الثالث عشر في تعريف سبب ترتيب الميري على البلاد وقدره .
الباب الرابع عشر في تعريف سبب ترتيب مصاريف الميري ،
الباب الخامس عشر في تعريف المواريث وما يخص بيت المال ،
الباب السادس عشر في تعريف الأسئلة الآتي ذكرها فيه (وهى متنوعات أغلبها تاريخي ) .
وتقع هذه الأبواب في 75 صفحة في مجلد مخطوط بقلم معتاد محفوظ
بدار الكتب المصرية تحت رقم 1152 في فهرس التاريخ،
وقد أخطأ محرر الفهرس فبدلا من أن يقول إنها الأجوبة التي أجاب بها حسين أفندي استيف خزينة دار الجمهورية وضع لفظة " أساقفة " بدلا من استيفو الموجود بالأصل.
وقد بينا أرقام الصفحات الأصلية داخل أقواس. هذا وقد كتب على المجلد ما
يفيد أنه اشتري من تركة المرحوم قدري باشا وأضيف في 10 نوفمبر سنة
1889 .
وينتسب حسين أفندي صاحب هذه الأجوبة إلى الروزنامة - وفد تولاها فعلا
في أيام الاحتلال الفرنسي دون أن يتلقب بلقب روزنامي مصر .
والروزنامي - كما قال حسين أفندي - يجب أن ( يكون عاقلا مسلماً وهو وكيل عن السلطان في الأموال الميرية ....... وهو الذي يرد المشورة على الباشاوات في كامل الأمور الصالحة) - وهو رئيس أفندية الروزنامة التي " رتبها السلطان سليم ترتيباً عظيماً وجملها من أسرار الملوك على سائر تعلقات الناس " ، وقد مكن السلطان الأفندية في وظائفهم " ومن بعدهم في ذرياتهم ومماليكهم إن كانوا يكونوا أهلاً إلى صنعة الكتابة، ولا يقع بينهم تغيير ولا تبديل إلا بالموت أو بخيانة ظاهرة، وكل من مات منهم يدفع أتباعه الحلوان إلى نائب السلطان ويمكنون في ذلك بالحلوان الذى يدفعونه " .
ووصفهم استيف في مقالته في مالية مصر بأنهم كانت لهم مكانة بين قومهم، وأنهم بلغ بهم الحرص على سرية أعمائهم أن ابتدعوا خطاً لكتابة حسابهم لا يمكن لغيرهم قراءته . ثم أضاف إلى ذلك أن الشرقيين كانوا يباهون بما أوتي أفندية الروزنامة من الاطلاع ولين الجانب.
أما عن أصلهم فقد لاحظ استيف أن أكثرهم كان من المماليك. وأنهم
كانوا عادة يعدون مماليكهم لتولى وظائفهم . هذا وفي أكثر من موضع في
الجبرتى نجد ما يؤيد قول استيف عن اشتغال الأفندية بالعلم من معقول
ومنقول.
يخطئ إذن من يتوهم أن الإدارة العليا لمالية مضر كانت في يد الأقباط،
والواقع - كما سنرى - أنه لم يكن بالروزنامة من غير المسلمين إلا ثلاثة
صيارف من اليهود . ولم يأت اتصال الأقباط بالمالية إلا عن طريق اشتغالهم
بالجباية في بلاد الأرياف ، وبمباشرتهم لحصص الأمراء من المماليك ، وبالتزام موسريهم ببعض الاحتكارات الحكومية .
قلنا إن حسين أفندي تولى عمل روزنامي مصر أثناء الاحتلال الفرنسي ولكن
يجب أن نضيف إلى ذلك أن الروزنامة - كما وصفها هو في أجوبته - بطل
عملها أثناء ذلك الاحتلال ، وقد عهد الفرنسيون ببعض اختصاصها إلى لجنة
من خمسة من أعضاؤها المصريون الشيخ المهدي وحسين أفندي والمعلم
فلتاؤوس
ولا نستطيع الآن التحقق من تاريخ حسين أفندي بعد جلاء الفرنسيين عن
مصر ، وليس لدي ما يثبت - أو ينفي - أنه هو نفس حسين أفندي الذى تقلد
الروزنامة في عهد محمد علي ، ثم بلغ منصب الدفتر دارية في جمادى الثانية من سنة 1222 ، ثم نقم عليه الباشا أموراً فأمر بضربه وتجريده من وظيفته وكان ذلك في عام 1228 .
تحليل أجوبة حسين أفندي :
من يحقق النظر في هذه الأجوبة ثم ينتقل لدرس مقالة استيف في مالية
مصر ولمطالعة الحوادث كما سجلها الجبرتي لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن حسين
أفندي إما أنه كان شديد الغفلة أو أنه تعمد في وصفه أن ينحو نحو التقرير
النظري فقط ،
وذلك لأنه تجنب تفصيل الواقع تجنباً يكاد يكون تاماً - اللهم إلافى موضع أو موضعين اضطره السائل فيهما إلى أن يتحدث عن بعض ما أحدثه الأمراء المماليك في أيامه من الحوادث ، وبذلك لا نكاد نلمس في أجوبته أي
أثر لما كان سائداً من الاضطراب والعسف ، من غصب الأقوياء وضياع الحقوق واختلال السجلات والمقاييس والسكة مما سنتبينه كله واضحاً عندما نعرض في مقالتنا الثانية لمقالة اسكيف في مالية مصر .
لم يصدر هذا عن غفلة فحسين أفندي كان من رجال الروزنامة : وكان على
رأسها أيام الفرنسيين فهو على تمام الاتصال بما هو واقع . إنما صدر هذا عن
رغبته في الإجابة على الأسئلة التي وجهت إليه بوصف ترتيب الديار المصرية
كما رسمه السلاطين . وكما يجب أن يكون لا كما عبثت به حوادث الزمان .
ولهذا النحو من وصف النظم قيمته , إذ هو يدلنا من جهة على نوع الكمال
الذى كان ينشده الواضعون ، ويبعثنا - من جهة أخرى - على استقصاء أسباب قصور الناس عن بلوغه، أو بعبارة أخرى أسباب ابتعاد الواقعي عن القانوني .
هذا إلى أن أجوية حسين أفندي تصور لنا ما كان يعرفه أهل العلم عند نهاية
العصر المملوكي العثمانى عن الأصول التاريخية لنظم ذلك العهد .
يعتقد حسين أفندى أن النظم التي وصفها كانت كلها مما رسم به السلطان
سليم عند فتحه لمصر ، ثم يقرر أن السلطان سليم فيما رسم من النظم الخاصة بحيازة الأرض الزراعية وربط الأموال لم يكن مبتدعاً بل كان مقرراً لحقوق وخطط ترجع لعهد قديم جداً، لعهد استوزار فرعون لسيدنا يوسف عليه السلام.
أما أن ترتيب الديار المصرية كما جاء في أجوبته كان من رسم سليم أو أي
سلطان آخر .
فقد ثبت أن هذا لم يكن كذلك بل ثبت على العكس أن ظروف الأحوال كان لها في إحداثه تأثير أكبر من تأثير التشريع السلطاني يتضح هذا أولاً في المجلد الخامس من تاريخ ابن أياس الذى نشر أخيراً والذى يتناول الكلام على عهد نيابة خاير بك . وهو أول من تولى النيابة عن السلطان العثماني
في إدارة شؤون مصر.
وتجد في هذا الكتاب خاير بك يعالج المسائل بقدر جهده طبقاً لقواعد سياسية أساسية لا طبقاً لنظام موضوع .
ويتضح هذا ثانيا في بحوث العلامة سلفستر دي ساسي - في تاريخ تطور حق ملكية الأرض الزراعية في مصر - التي أعيد طبعها في أيامنا فأصبحت بذلك أقرب مثالا مما كانت . وقد استطاع سلفستر دي ساسي أن يثبت بواسطة تحليل بعض الوثائق فساد ما زعمه بعض الباحثين من أن رعايا الدول الشرقية الاستبدادية ليست لهم حقوق مدنية . كما استطاع أن يكشف لنا عن جانب من ذلك التطور في النظم الذى أشرنا إليه ، وإن كان كشفه هذا غير متصل الحلقات .
ومهما يكن فقد أرشد الباحثين إلى الطريقة المثلى في دراسة هذا الموضوع ، وهي الطريقة التي تقوم على قاعدتين :
الأولى تحليل وثائق أصلية من عصور مختلفة (وقد فعل نفسه ذلك) ،
الثانية موازنة ما حدث في ممالك ظروفها مماثلة لظروف مصر كبعض ولايات الإمبراطورية الهندية مثلا ( وقد نبه إلى ما في هذه الموازنة من نفع).
وأما ما ذهب إليه حسين أفندي عن تأصل القواعد التي قامت عليها
السياسة المالية والإدارية في هذه البلاد - وقد عبر عن هذا التأصل بنسبتها
لعهد وزارة سيدنا يوسف - فأمر يقره عليه البحث الصحيح. إذ أن هذه
القواعد كانت مما عليه واقع الحال وظروف الحياة المصرية في مختلف
العصور.
وبعد فآخر ما نختم به هذا التحليل هو أن نشير إلى أن شقاء المصريين في
العهد المملوكي العثماني يجعلنا ننسى حقيقة هامة هي أن من السلاطين
والعظماء من كان راغبا أصدق رغبة في إحقاق الحق وفعل الخير وتثبيت العدل.
وقد قال حسين أفندي في آخر كلامه عندما سئل عن انتفاع السلطان بملك
مصر أن هذه المملكة جميعها ملكه وأنه لا ينظر إلى الانتفاع منها بل رتب
مصرفها على قدر جبايتها وقرر أن ما فاض من الجباية يبقى لينفق منه في
عمارتها وما ينعم به على الناس .
المصدر:
من تراث الرواد
مصر عند مفترق الطرق
1798 - 1801
محمد شفيق غربال
المقالة الأولى
ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية
كما شرحه حسين أفندي أحد أفندية الروزنامة في عهد الحملة الفرنسية
دار الكتب والوثائق القومية
مركز تاريخ مصر المعاصر
مصر الحديثة
دورية سنوية محكمة تعنى بتاريخ مصر الحديث والمعاصر
العدد السابع 2008
مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة