مصر منذ تسعين سنة |
الافندي الأرمني
في صباح اليوم التالي خرجنا من مرفأ دمياط في قارب لقنصل فرنسا ورافقنا
القواس وقد عهد اليهِ في شحن الرز من العزبة ونقلهِ إلى المركب اليوناني الراسي في عرض
البحر عند راس البوغاز . فسار بنا القارب بين مروج خصبة وغابات من النخيل ، وبينما كنت
امتع بصري بتلك المناظر البديعة البهجة والقارب يسير بنا الهويناء ومياه النيل الصافية
كالمرآة تتجعد كحلقات الزرد من نسيمات السحر وتتلاطم معانقة مياه البحر المالحة اذ وصل الى
سمعي غناء بلغةٍ غريبة وقد تكرر مطلعهُ هكذا : « استنبولدن آه يلير فرمان . علي عثمان
یارجمندة يلير استنبولدن » فالتفت إلى مصدر الصوت فرأيت شابًّا بهي الطلعة ولكنهُ زري
الهيئة فسألت القواس عنهُ فقال انهُ شاب ارمني صعلوك من اسطنبول يجول في البلاد
للاستجداء وهو يغني بالتركية اغنية دارجة شاعت عند صدور الفرمان من السلطان بقتل
الانكشارية
ثم وقف بنا القارب عند عزبة بالقرب من بحيرة المنزلة لشحن اكياس الرز فخرجت
إلى البر وجلست على العشب فاتى ذلك الشاب الأرمني وجلس بالقرب مني فتبينتهُ واذا
هو جميل الهيئة بملامح شركسية وعينين سوداوين استرسل شعرهُ على جبينهِ وفوديهِ
تحت طربوش احمر تركي وهو يلبس « غنبازاً » قصيراً او ساية من الحرير مقلمة بخطوط
ملونة الا أنها عتيقة فوقها جبة قصيرة من جوخ اسود عريضة الأكمام الاَّ انها ممزقة .
وفي وسطهِ منطقة ملونة فهو في هيئتهِ هذه وشكلهِ كتركي فقير ولم أرَ في وسطهِ
الغدارات والخناجر حسب عادة الترك بل وضع بدلاً منها دواة طويلة من نحاس اصفر
فتأكدت حينئذ انهُ « افندي » من رجال الكتابة ودهشت حبنا بادأَني بالتحية باللغة
الفرنسوية قائلاً : بونجور مسيو
فقلت له أَأَنت مصري﹖أجاب كلا انا من اسطنبول هاجرت الى هذه البلاد مع مَن
هاجر من الاتراك والارمن للارتزاق بعد ان استقل محمد علي باشا في حكم ولاية مصر
وكنت كاتبًا و مترجمًا في سراي طوسون بك نجل سعادتهِ . ثم خرجت من عندهِ وحضرت
إلى دمياط ولما علمت انك مسافر الى سوریا عزمت ان اصحبك في السفر الى بيروت ولي هناك
شقيق كاتب عند حاكم تلك المدينة ومقرب اليهِ . فالتفت نحو القواس وقلتُ له لا أَری
بأسًا أن يسافر هذا الشاب معنا . فاخذني ناحية وقال لي همسًا : اني لا اري من الفطنة
والصواب أن تصحبهُ معك لئلا تضطر أن تدفع عنه نفقتهُ واجرة السفر في المركب اليوناني
لانهُ فقير معدم لا يملك سوی دواتهِ واقلامهِ فهو من الجوالين الصعاليك الذين يجولون في
البلاد متخذين مهنة الكتابة ونظم الاشعار للاستجداء ولما وصل الى دمياط قصد القنصل
فنقدهُ بعض دريهمات وصرفهُ
فالتفت حينئذٍ نحو الشاب وقلت لهُ اني آسف يا عزيزي لكوني لا اقدر ان اصحبك معي
في المركب فليس في وسعي أن ادفع عنك اجرة السفر فقد نفدت دراهمي وما عندي لا يكاد
يكفيني للوصول إلى بلادي . فاجابني لا بأْس سابقى هنا عند الفلاحين الى ان يمر بعض
السياح الانكليز الذاهبين الى سوريا ولا بد ان اجد بينهم واحدًا ذا حنان وعطف و مروءَة
فيأْخذني معه . فآلمني هذا الكلام وحرك في قلبي عاطفة الغيرة والمنافسة الجنسية فندمت لما
ابديتهُ من الجفاء نحو هذا الشاب المسكين
— بوغاز دمياط و بحيرة المنزلة —
و بینما كان الفلاحون يشحنون اكياس الرز في القارب اتخذت هذه الفرصة للتفرج على
بحيرة المنزلة القريبة من هناك فسرت مع القواس في تلك المروج والغياض واجتزنا قرية
تدعي « العزبة » وكل بيوتها حقيرة من الطوب النيء ما عدا جامعًا قديمًا متهدمًا واثار برج
من الحجر الصلب وكلاهما تهدما في حصار دمياط على عهد الصليبيين تحت قيادة الملك
لويس التاسع . وكان هذا البرج من حصون دمياط القديمة ذات الأسوار المنيعة وكانت
على شاطئ البحر غير انه على طول الزمن تغلب طمي النيل على المياه فصارت المدينة
على بعد بضعة أميال من الشاطئ . وقد قرر العلماء أن تربة الاراضي المصرية تكتسب
ميلاً من ارض البحر في كل ستمائة سنة بواسطة الطمي . وان مدينة دمياط الحالية كانت
منذ تأسيسها على شاطىء البحر المالح فصارت الآن على مرّ الزمن و برسوب طمي النيل على
مسافة أميال من البحر
وكانت دمياط محطًا للقوافل والمسافرين بين البرّين مصر وسوريا في الزمن السابق
ولم تنزل الى الآن آثار مدن وخرابات على شاطىء البحر وضفاف بحيرة المنزلة طمرتها الرمال
بعد أن قذفتها الرياح من الصحاري الشرقية . وتتبع العلماء هذه الآثار على شاطىء البحر
فوجدوا خرائب مدن مصرية كثيرة بنيت على عهد ملوك طيبة والملوك الرعاة و بعض
تلك المدن كانت على شاطئ البحر فتغلبت عليها الرمال الشرقية والطمي فصارت على
مسافات بعيدة عن البحر وقد احصى العلماء الجيولوجيون طبقات الطمي وعلوها عن الماء
وحسبوا الزمن الذي ترسب فيهِ كل طبقة من الأرض بسبب طمي النيل في كل سنة
من السنين فوجدوا أن عمر الأراضي المصرية اربعون الف سنة منذ كانت المياه غامرة
بلاد الدلتا كلها
ثم وصلنا الى بحيرة المنزلة وهناك رأينا الوفًا من قوارب الصيادين تمخر في تلك
البحيرة وبين جزرها الكثيرة لصيد السمك . ويصطادون منهُ في كل سنة الوفًا من
القناطير تكفي مؤُونة مصر كلها . وبحيرة المنزلة هي بحيرة ماريوتنیس القديمة وعلى
شواطئها كانت مدينة تانيس العاصمة القديمة ومدن كثيرة عفَت آثارها ومدينة بيلوزا
مفتاح القصر المصري في الحدود الفاصلة بين سوريا ومصر ومن هذه المدينة اجتاز
الملوك الفاتحون لاجتياح مصر كملوك اشور وفارس واليونان والرومان . ومنها دخل
الاسكندر الى مصر . وحول البحيرة اراضٍ مشبعة من نشع مياه النيل تزرع ارزًا
وتتخللها اشجار الطرفاء والجميز والنخل وعلى ضفاف الترع نباتات البردي واللوتس
الأرجواني والنيلوفر وتحوم حولها الطيور من حمام وبط واوز وغيرها من الطيور المائية
الصالحة للصيد
وبينما كانت انظاري متجهة إلى حركة قوارب الصيادين والى مدهشات الطبيعة
وافكاري منصرفة إلى تلك العاديات القديمة ممت تلك الاغنية التركية التي سمعتها في
القارب من ذلك الشاب الارمني الذي رفضت ان اصحبهُ معي تبعًا لمشورة القواس وكان
يكرر نشیدهُ فالتفت فرأًيتهُ واقفًا على بعد بعض خطوات مني وفي وسطهِ دواتهُ الصفراءُ
النحاسية وتحت ابطهِ صرة ثيابهِ وهي كل ما يملك من حطام الدنيا فحملتني الشفقة عليهِ الى
استئناف الحديث معهُ فتركت القواس ودنوت منهُ وقلت له همسًا
كنت اود ان آخذك معي إلى سوريا لولا الضائقة المالية ولكني ساطلب من ربان
المركب ان يأخذك باجرة قليلة وانا اقدم لك الطعام مدة السفر فخفف عنك
وطأة الهم . وقد رأًيت هذا القواس الانكشاري حاقدًا عليك فربما كان ذلك
لانك تعرض بهِ في اغنيتك التركية عن صدور الفرمان بقتل الانكشارية . فاجابني لا بل
هو نفسه بادأَني بالعداء ولم يدعني اقابل القنصل بدمياط ولولا انهُ جعل نفسهُ تحت
حمايتهِ وادعى بانهُ الباني لما بقي إلى الآن حيًّا فلا يوجد الآن انكشاري واحد في كل
السلطنة التركية
فاهتممت باصلاح ذات البين بينها وعزمت ان اصحبة معي فحمل صرة ثيابهِ تحت ابطهِ و
اتبعنا ولما رجعنا من تطوافنا الى العزبة رأَينا القارب امتلأَمن اكياس الرز والجاربة جالسة
بين اقفاص الدجاج تنتظرني بفروغ صبر . فسار بنا القارب في الترعة الدمياطية الى البوغاز
( رأس البر ) وكنا كلما تقدمنا تتسع امامنا طبقات الرمال من الضفتين وهذا ما جعل الترعة
غير صالحة لمسير السفن الكبيرة ، فالمراكب التي ترد من سوريا واليونان واسطنبول ترسو في
آخر البوغاز ، ورأَينا على ضفتي الترعة آثار حصنين قديمين متهدمين من عهد الصليبيين •
وبعد ساعتين وصل بنا القارب الى البوغاز حيث ملتقى ماء النيل بالماء الملح وتبينّا المركب
اليوناني فاذا هو سفينة صغيرة بساريتين على احداها شراع مثلث . فأوجست خيفة من السفر
فيها ورأًيت ولكن بعد فوات الوقت ان من الخطر السفر في مثل هذا المركب الصغير
الذي قد لا يتحمل تلاطم امواج البحر المتوسط وخصوصًا وهو مثقل بمئات من اكياس الرز .
ولما لصق القارب بالمركب تدلى منه سُلم من حبالٍ فصعد القواس اولاً ثم تبعتهُ مع الجارية
والشاب الأرمني ونقل البحارة كل صناديقي وامتعني فجلسنا عند مؤَخر المركب بينما كانوا
ينقلون اكياس الرز من القارب الى المركب حتى امتلأً منها وصارت كجبلٍ عالٍ امامنا . وفي
هذه الاثناء دنا مني رجل طويل بلباس ازرق وقبعة سوداء من الفرو وحياني بالرومية
قائلاً « کالميرا » وعرفني بهِ القواس فاذا هو ربان السفينة ثم ذهب لملاحظة
اتمام الشحن . وضاق بنا المكان وأكياس الرز من حولنا ونحن في فرجةٍ ضيقةٍ بينهما
لا تكاد تكفي لجلوسنا فكيف نقدر ان ننام او نسير . وليس في المركب سوی غرفة
واحدة للربان واخرى للطبخ والعفش واقفاص الطيور وفي جانبيهِ قاربان صغيران مربوطان
بجبال الساري
المصدر: مصر منذ تسعين سنة (11) ، ترجمة ديمتري نقولا لرحلة جيرار دي نرفال للشرق، مجلة المقتطف، 1 ديسمبر سنة 1916 (رابط).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق