قبيل الفتح العربي
ظلت دمياط حوالي سبعة قرون خاضعة للدولة الرومانية ونظمها وقوانينها ،
يتبدل عليها الحكام الرومان وجنودهم وتجارهم . كما شهدت تلك الأحداث التي مرت
على الأقليم المصري خلال تلك الحقبة من الزمن .
ولم يكن الرومان يهمهم من أمر مصر غير استيراد الغلال وفرض الضرائب على
الناس والسلع صغيرها وكبيرها . كما كانوا يرغمون السكان على أيواء جنودهم وأعالتهم
ومع ذلك فلقد كان من مصلحة الدولة الرومانية أن تحصن الثغور المصرية ، وتجعل
منها مواني صالحة لرسو السفن ونقل المتاجر . وكانت تامياتس كأخواتها شطا
وتنیسوس وتونه ثم بيلوزيوم والأسكندرية كلها ثغور ناجحة تنتقل فيما بينها وبين
ثغور الأمبراطورية ، السفن التجارية والحربية .
وكان أكثر السكان يدينون بالوثنية إلى أن ولد السيد المسيح في عهد الامبراطور
أغسطس قيصر ، ودخلت المسيحية رويداً منذ عهد نيرون عام ٥٤ م وكان معتنقو
هذا الدين الجديد يلقون من أباطرة الرومان ألوان التعذيب والاضطهاد فلما تولى
الأمبراطور قسطنطين ، اعترف بالمسيحية ( عام ۳۲۳ م ) ومنح أهلها بعض
الامتيازات . وجاء الامبراطور ثيودوسيوس ، فعل المسيحية دين الدولة الرسمي
عام ۳۸۱ م . وانقلبت الآية فبعد أن كان الأباطرة الوثنيون يضطهدون المسيحيين
أصبح الأباطرة المسيحيون يطاردون الوثنيين ، ويجعلون من المعابد الوثنية كنائس
وأديرة .
ومن السهل أن تتخيل مدينة دمياط وقد تحولت إلى مدينة مسيحية تنتشر فيها
الكنائس ثم تصبح أسقفية هامة من ابروشيات البلاد . ومن السهل أيضا أن نراها
تنقسم إلى مذهبین دینیين متنازعين كغيرها من المدن المصرية ، وكانت الخصومة تدور
حول طبيعة السيد المسيح . فالفريق الذي سمي أتباعه باليعقوبين أو المنوفسيين ،
وأغلبه من قبط مصر ، كان يقول بامتزاج الطبيعتين الآلهية والبشرية في السيد المسيح ،
والفريق الأول الذي دعي أصحابه بالملكانيين ، وكانوا من الروم والأغريق - أي
الطبقة الحاكمة — كان يقول بان السيد المسيح وظهر آلهي فقط . ولقد أدى الخلاف
في الرأي ، وأذكاه الخلاف في الجنس واللغة بين المحكوم والحاكم ، إلى الحزبية
والاضطهاد . و بلغ من اضطهاد الحكام الملكانيين لليعاقبة المصريين ، أنهم صادروا
حرية عبادتهم فشتتوا شمل القساوسة القبط ، وألجأوا أحد بطارقتهم إلى أحد
الأديرة بالصحراء عدة سنوات .
وأراد بعض الأباطرة أن يحسموا الخلاف بعقد المجامع للمناقشة في هذا
الموضوع كما حدث في مجمع خلقدونية عام ٤٥١ م وما سبقه من مجامع ، غير أن
الخصومة المذهبيه كانت قد امتزجت بالخصومات السياسية والجنسية .
وانتهز الفرس فرصة الانقسامات فغزوا مصر حوالي سنة ٥۰۰ م واجتاحوا
مصر السفلى وشب بينهم وبين المصرين قتال شديد في عدة أماكن حتى ارتدوا
عند أسوار الاسكندرية .
وفي أواخر أيام الامبراطور جستنيان الأول ( ٥۲۷ — ٥۹٥ م ) الذي
اشتهر بحبه للفنون والعلوم ، اجتاح الوباء الأسود بلاد الشرق الأوسط
وعصف بالمدن المصرية من شرقها إلى غربها . وأعقب الوباء زلزال رهيب دمر
المدن وأغرق الثغور . ولا تعدوا الحقيقة إذا قلنا إن دمياط قد أصابها ما أصاب
جاراتها من ويلات ذلك الوباء الأسود وذلك الزلزال المدمر الشديد في أواسط
القرن السادس .
فلما جاء تیبریوس سنة ٥۷۸ کان تيار الاضمحلال يسري في كيان الأمبراطوريه ،
فخلف لمن جاء بعده دولة غير متماسكة وشعبا متذمراً ، وخزائن خاويه . . ولم يكن
في بلاد الدولة الرومانية وقتذاك ما هو أشقى حالا من مصر التي سادها الاختلاف
المذهبي والسياسي . .
وما لبثت أن وقعت مصر في غمار ثورة تزعمها قواد رومانيون فتم لنيقتاس
ملك مصر عام ٦۱۰ واشترك فيها الشعب الذي كان يكره حکم بيزنطه ، وسارت
السفن الحربية في فرعي دمیاط و بیلوز ، وجاءت جيوش الأمبراطورية لأخضاع
الثوار ، وحدث أن هرقل — أحد القواد البيزنطيين — استطاع أن يتوج نفسه
أمبراطوراً على القسطنطينيه ويصبح سيد البلاد الرومانية ، فثبت فيقتاس على مصر ،
وعمل على استمالة شعبها إليه ..
وما كادت البلاد تهدأ فترة قصيرة حتى عاد الفرس فسيروا جيوشهم في خريف
عام ٦۱٦ م إلى مصر ، واستطاعوا أن يمتلكوها بعد أن تمادوا في القتل والنهب
والتخريب وحرق الأديرة والاستيلاء على المكتبات الثمينه ، وتحولت جيوشهم
من الفرما إلى الأسكندريه إلى الصعيد ، يحل الموت والخراب حيث حلوا ..
ثم هدأت سورتهم وسادوا البلاد عشر سنوات و نيف . وخرجوا ليعود هرقل إلى
حكم مصر ، ليشهد قبل موته الفتح العربي الذي جعل من الأقليم المصري وماجاوره
من أقاليم الشرق دولة عربيه قويه متجانسة .
ففي ذلك الزمان ... كانت السفن الشراعية الكبيرة ، المحملة بالقمح والكتان
وورق البردي والزجاج والمنسوجات البديعة ، تخرج كل يوم من دمياط ، ثم
تدخل إليها مراكب أخرى محملة بأخشاب الشام ، ومرمر اليونان ومعادن رومه
... وكانت تلك السفن تحمل اليها أيضا الأنباء ... لقد ظهر نبي عربي في شبه
جزيرة العرب — ولد عام ٥۷۰ م — وهو ذا قد أرسل إلى عظيم القبط —
الملقب بالمقوقس — رسولا ومعه کتاب ... فأكرم « المقوقس » الرسول
وبعث معه هدية عظيمة وجاريتين : ماريه القبطيه وشیرین ... وهاهي قد سمعت
بمولد الأمة الأسلامية الفتية واتساع رقعتها ... لقد زحفت حدودها إلى ممتلكات
بيزنطه ... بينها دولتا الروم والفرس تتقاتلان ... وهوذا الامبراطور هرقل قد
خرج عام ٦۲۲ م — وهي سنة الهجرة النبوية — للقاء الفرس الذين مزقوا دولته
... وتتوالى انتصاراته ويدخل القسطنطينية عام ٦۲۸ م ليحتفل بالنصر .. أنباء
عجيبة تصل كل يوم إلى مسامع دمياط الجاثمة على مصب النهر وراء أسوارها
وحصونها ... ولكن لا يعلم الغيب المحجب إلا الله وحده
المصدر: كتاب تاريخ دمياط منذ أقدم العصور تأليف نقولا يوسف (رابط)، الصفحات من 72 حتى 74.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق