السبت، 9 يناير 2021

زيارة دمياط والقنصل سرور من رحلة جيرار دي نرفال

مصر منذ تسعين سنة - ترجمة ديمتري نقولا
مصر منذ تسعين سنة


السفر الى دمياط

ركبنا عصاري ذلك اليوم في الذهبية فسارت بريح موافقة حتى وصلنا الى بطن البقرة 
حيث النقطة السفلى لزاوية الدلتا . ثم غابت عنا رؤُوس الاهرام واظلم الافق . وكان مسيرنا في 
الفرع الشرقي اي على مجرى النيل الاصلي الذي يصب في دمياط وعلى ضفتي هذا الفرع اراضٍ 
خصبة ومروج زاهرة و بلاد عامرة . فاجتزنا بلدة « شلقانية » المبنية على اثار مدينة سركاسورم 
القديمة تم مررنا ببلدة دجوي وكانت منذ عهد قرب مركزًا او وكرًا لعصابة لصوص النيل 
يترصدون مرور المراكب ليلاً و يتبعونها سباحة و يختطفون ما تصل اليهِ ابديهم من البضائع
والأموال ثم يختفون في الجزائر والآجام . ومررنا على خرائب اتريب القديمة ( قرب بنها ) .

وفي اليوم التالي رسونا عند بلدة ميت غمر وهي كثيرة العمران والسكان وجامعها قديم جدًا 
مأذنتهُ مربعة الشكل كان قديمًا كنيسة مسيحية قبل الفتح الاسلامي . واجتزنا بلدة ابو صير 
وهي بوزیزس القديمة ثم سمنود المبنية على آثار مدينة سبانیتوس القديمة . وعلى مقربة من 
هذه البلدة اثار او خرائب هيكل مصري عظيم كثير القدم كان للمعبودة ايزيس مبني على 
اعمدة كثيرة فوق كل عمود تاج مزخرف بالنقوش البديعة تمثل رؤُوس نساء بارزة . وقد 
دك الاهالي اكثر هذه الأعمدة وقطعوها وصقلوها حجارة للطواحين

ورسونا في مساء اليوم الثالث امام مدينة المنصورة وقد اسفت جدًّا لاني لم اتمكن من 
التفرج على معامل تفريغ البيض المشهورة في هذه البلدة وعلى بيت ابن لقمان حيث اسر 
الملك لويس التاسع . ولما صحونا عند الصباح من النوم فوجئنا بنبإٍ مزعج ذلك اننا رأَينا
العلم الاصفر مرفوعًا فوق مركز الصحة وقيل لنا ان اكثر بلاد الدلتا الى دمياط موبوءَة
بالطاعون . فلم نتمكن من الدخول الى البلد لابتياع ما يلزمنا من مؤُونة وغذاء وقد فرغ 
ما كان عندنا منها . فواصلنا مسيرنا الى بلدة فارسكور وهناك ظهرت اما اعيننا مجالي 
العمران والخصب و مناظر الطبيعة الجميلة من المروج المخصبة وغابات النخيل الزمردية . ثم 
دخلنا في خليج مدينة دمياط وظهرت امامنا ابنيتها العامرة كدائرة حول الرصيف وهي على 
الطرز الايطالي مكللة واجهاتها وسطوحها بقصاري الزهور والرياحين . ومدخل دمياط على 
هذا الوصف يشبه مدخل البندقية

فرسا بنا المركب في المرفإِ الكبير امام بناية عظيمة عالية الجدران يخفق فوقها علم الحكومة 
الفرنسوية ولم يسمح لنا بالدخول الى المدينة الأَ صباحا بعد ان يزورنا طبيب الكرنتينا وكان 
العلم الاصفر مرفوعًا فوقها دلالةً على أن المدينة موبوءَة بالطاعون . فقضينا الليلة في الذهبية 
وعند الصباح رفعتُ العلم الفرنسوي فوق ساري مؤَخرتها وقد الجأَتني الضرورة لاعلان 
جنسيتي قبل ان يزورنا رجال الصحة . و بعد ساعة أطل علينا من الشاطيء قواس قنصلية 
فرنسا وقال لي ان القنصل لما رأَى العلم الفرنسوي على المركب ارسلهُ لينظر مَن القادم 
ويعرض عليهِ ما يريد من الخدمة والمساعدة . فعرفتهُ بنفسي وقلت لهُ اني قادم من مصر 
ومسافر الى سوريا ومعي کتاب توصية من قنصل جنرال فرنسا إلى قنصل دمياط واريد ان 
اقابلهُ واسلم الكتاب اليهِ بيدي ، فغاب القواس هنيهة ثُم رجع ودعاني أن اذهب معهُ لمقابلة
القنصل . فلم يجسر احد من رجال الحفظ والصحة على معارضة قواس القنصل . فخرجت من 
المركب واتبعتهُ واوصاني أن لا المس احدًا في الطريق ولا ادع احدًا يلمسني وكان يسير 
امامي وهو بثوبهِ الألباني وغداراتهُ في وسطهِ يقرع بعصاهُ الفضية المتوجة بتفاحةٍ ذهبية 
على البلاط قرعًا عنيفًا متواصلاً ليبعد عن طريقي الناس والغلمان الذين ازدحموا ليتفرجوا 
عليّ . وكانت القنصلية على مقربة من الرصيف فدخلنا فيها واذا هي بناية كبيرة واسعة عالية
كثيرة المداخل يقال لها « وكالة » (١) وفي اعلاها مسكن قنصل فرنسا و يدعى م . سرور . 
وهو سوري الأصل ومن كبار تجار الأرز في دمياط فاصعدني القواس الى بهو كبير مفروش 
بافخر الرياش وفي صدرهِ رجل جالس وهو بثياب شرقية فقال لي القواس هذا هو القنصل .
فحنيت رأسي احترامًا واخرجت من جيبي کتاب التوصية وتقدمت لاسلمهُ اليهِ فرفع يدهُ 
نحوي وقال لي بلهجة يشوبها الانتهار « آسبتا » اي توقف فعلمت أن الرجل يأبى ان يمسني 
لانهُ من حين ظهور الطاعون في دمياط انزوي في بيتهِ لعدم الاختلاط باحد كانهُ في حجرٍ 
صحي ثم خرج من باب ورجع وهو حامل ملقطًا والتقط بهِ الكتاب من يدي ومزق غلافهُ 
بسكين واخرج الرسالة بالملقط وقرأَها بدون ان يمسها كانني مصاب بالطاعون مع اني آتٍ 
من بلاد سليمة . ولما عرف من انا وما هي منزلتي بين قومي خفف شيئًا من حذرهِ وعبوستهِ 
الاولى ورحب بي واشار اليَّ ان اغتسل ودعاني للجلوس معهُ على مائدتهِ للغداء

ثم دعا كاتب سره او ترجمانهُ ( قونشلير ) ليكون ترجمانًا بيني وبينهُ لانهُ لا يحسن كثيرًا 
التكلم باللغة الفرنسوية واظهر لي صريحًا ان دعوته لي للغداء داخلة ضمن حدود الكرنتينا 
فلا المس شیئًا الاَّ ما يقدم لي الخادم . وحينئذٍ تذكرت رفقائي ريس المركب وبحريتهُ 
وقد فرغت المؤُونة من عندهم وحجر عليهم فلا يقدرون ان يختلطوا باحد فرجوت من 
القنصل ان يرسل لهم شيئًا من القوت ففعل وامر ان يقدم لهم الخبز والدجاج واللحم بواسطة 
القواس فشكرت القنصل على لطفهِ وكرمهِ والشرقيون معروفون بالكرم وحسن الضيافة . ثم 
ذكرت لهُ جاريتي زينب وطلبت احضارها الى القنصلية فحضرت مع القواس ولما مثلت 
امامهُ حدَّق فيها كثيرًا فرأى ما هي عليهِ من غضاضة الصبا والجمال الجاوي فقطب حاجبيهِ 
والتفت نحوي وسألني وهل انت مزمع ان تأخذ هذه المرأَة معك إلى فرنسا . قلت اذا 
شاءَت ان ترافقني الى وطني فلا سبيل لي الى منعها . قال ولكن الا تعلم انها اذا وطئت 
الأراضي الفرنسوية فتكون حرةً . قلت اني اعتبرها حرة منذ الآن . قال أولا تعلم انها اذا 
سئمت الاقامة في فرنسا وارادت الرجوع الي مصر فانك مضطر لتسفيرها على نفقتك . قلت اعلم 
ذلك . قال اني اشير عليك يا مسيو دي نرفال ان تبيعها هنا فانت سائح جوال في البلاد برَّا 
وبحرًا ويشق عليك ان تصحب امرأَة مثل هذه في اسفارك . قلت وكيف ابيعها في بلد موبوءٍ 
بالطاعون فان ذلك منتهى القساوة . قال انت وشأَنك اذًا . وغلب على ظني ان القنصل كان يقصد 
من ذلك أن يشتريها مني بثمن بخس ويجعلها خادمة في منزلهِ . ثم ذكرت لهُ بواسطة الترجمان ما 
حدث لي في القاهرة من امر السكنى والزواج وكيف اضطررت لمشترى الجارية فتبسم ضاحكًا

ثم انتقلنا بعد ذلك الى قاعة الاكل وكان في وسطها مائدة كبيرة مستديرة وعليها 
الاطباق وحولها الكراسي فاشار اليَّ القنصل بالجلوس على كرسي منفرد وجلس بازائي في 
الطرف الاخر وعلى يمينه القونشلير وعلى يساره ابنهُ وهو غلام صغير في السابعة من عمرهِ . 
واما القواس فوقف بيننا كحاجز . وكنت اؤَمل ان يدعو زینب لمشاركتنا في الغداء . وكانت 
متربعة على حصير عند مدخل باب الحريم فربما ظنت هذه الساذجة المسكينة اني احضرتها 
عند القنصل لكي ابيعها . وكان الخادم يقدم لنا الطعام على الطريقة الاوربية الاَّ انهُ 
كان يضع امامي صحافًا خصوصية لئلا اشترك مع الباقين في الصحفة العمومية منعًا 
للاختلاط . ثم بدأَ الحديث بيننا فذكرت للقنصل مجمل رحلتي منذ خرجت من فرنسا 
وسياحتي في سويسرا والمانيا والنمسا وما لاقيتهُ من الحوادث النادرة في فينا والبندقية وبلاد 
اليونان وانتقالي من سيرا الى الاسكندرية واقامتي في القاهرة . وذكر لي انهُ ولد في 
سوريا وهو من الطائفة الكاثوليكية وانهُ يتاجر بين دمياط والشواطئ السورية بالارز 
والحبوب وغيرها (٢) . واعتذر مني لعدم اشتراك زوجتهِ معنا في الاكل لان ذلك مخالف
للعوائد الشرقية ولكنهُ سيدعوها لتقابلني و يعرفني بها . ثم لم يمضِ الاَّ القليل حتى دخلت 
سيدة جميلة الطلعة في الثلاثين من عمرها رشيقة القوام كانت تخطو على مهل بخيلاءَ ودلال . 
فجلست على مقعد عالٍ ذي وسائد من القطيفة ( فوتيل ) بعد ان حنت رأْسها امامی مرحبة 
بي فوقفت احترامًا لها وكان شعرها الجميل معقودًا على رأْسها وعلى كتفها شال اصفر من 
الكشمير الحريري الفالي الثمن مشبوك بحلية كبيرة ذهبية مرصعة بالماس وعلى شعرها وزندیها 
حلى مرصعة بالحجارة الكريمة تسطع بهاءً وكانت مكحلة العينين مزججة الحواجب على الطرز 
الشرقي فكانت على هذا الشكل وهي جالسة على المقعد الحريري المرتفع كانها ملكة او عذراء 
رافائيل . وفي اثناء الطعام وجه القنصل نظر زوجتهِ الى الجارية فكلمتها وسأَلتها بعض اسئلة 
لم افهم معناها . ثم امرت الخادم أن يأْتيها بالطعام فاحضر لها سفرة صغيرة مستديرة ووضعها 
امامها فاكلت

وبعد الغداء خرجت لاتفرج على المدينة و تكرم القونشلير بمرافقتي فلم اجد فيها ما يستحق 
الذكر سوى الأبنية المرصوصة حول رصيف المنيا وهي على شكل قوس ( امفیتیاتر ) بعضها 
فوق بعض وكان القواس يسير امامنا و يبعد عنا الناس بعصاهُ الفضية . ورأَينا قبة ولي 
مشهور لها حرمة عند الأهالي وخصوصًا عند البحارة المسلمين . وزرنا کنیسة شرقية قديمة 
مبنية على الطرز البيزنطي من عهد الصليبيين . و عند باب المدينة تل او اكمة مسوَّرة بباب 
مقفل على الدوام وربما كانت جزءًا من السور القديم و يقال انها مدفن عظام جنود القديس 
لويس الذين قتلوا تحت اسوار دمياط

وفي تلك الليلة رجعت إلى الذهبية ونمت فيها وفي الصباح حضر اليَّ القواس وقال لي 
ان مركبًا يونانيًّا يدعى « آجيا برباره » سيقلع في مساء اليوم التالي من آخر بوغاز دمياط
( رأس البر ) وهو مسافر الى سور یا وان استعد للسفر فيهِ . وان مركبًا للقنصل مشحونًا 
ارزًا سينقلني مع جاريتي وامتعتي في البوغاز الى هذا المركب اليوناني الراسي في عرض البحر .

فسسررت جدًّا من هذا النبإِ غير المنتظر

ديمتري نقولا


(١) لم تزل هذه الوكالة باقية إلى الآن الَّا ان معظمها خرائب متهدمة وهي ملك اسرة سرور .
(٢) علمت بعد البحث الدقيق من بعض الاسر الدمياطية ان قنصل فرنسا الذي ذكرهُ هذا السائح 
هو میخائیل بن جرجس سرور . واسرة سرور كانت في دمياط ذات وجاهة نشأَت في دمشق الشام 
وهاجرت الى دمياط قبل عهد محمد علي باشا واكثر اعضائها كانوا قناصل لعدة دول . وقد عثرت على 
نشرة من ادارة التاريخ العام في الشرق طبعت في جنيف سنة ۱۸۷۱ جاءَ فيها تحت عنوان القناصل في 
الشرق ما يأتي « الكفاليير ميشل سرور . فنصل الولايات المتحدة الالمانية الشمالية في دمياط وعندهُ 
وسام من ملكة اسبانيا ايزابلاَّ الكاثوليكية ولد سنة ۱۷۹۷ وهو ابن حنا سرور المثري الوجيه فيس 
قنصل انكلترا وإسبانيا بدمياط و بعد وفاة ابيهِ سنة ۱۸١٤ شغل الوظائف والرتب التي كانت لهُ وهو في 
السادسة عشرة من عمرهِ وكان متضلعًا من لغات كثيرة . وفي عام ۱۸۳٦ اسندت اليهِ وظيفة فيس قنصل 
بروسيا ومنح الوسام الملوكي من الملكة ايزابلا الكاثوليكية • وفي سنة ۱۸٦۱ عين قنصلاً للولايات المتحدة 
الشمالية بامر ملك بروسيا وهو ذو وجاهة كبيرة و بيتهُ مفتوح للضيوف والغرباء بكرم شرقي ومقرب من 
سمو محمد علي باشا وصديق حميم لسمو نجلهِ ابرهيم باشا الذي يثق بهِ كثيرًا و بكلفة قضاء اشغاله كلها »


المصدر: مصر منذ تسعين سنة (10) ، ترجمة ديمتري نقولا لرحلة جيرار دي نرفال للشرق، مجلة المقتطف، المجلد التاسع والاربعون، الجزء الخامس، 1 نوفمبر ( تشرين ثانٍ ) سنة 1916 — الموافق 5 محرم سنة 1335 (رابط).


لمعلومات شبيهة للمذكورة أعلاه عن القنصل سرور (Michael Surur)، انظر هنا، وهنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق