الأربعاء، 28 أغسطس 2019

إم

إن لم تكن تملك قصة جيدة, فمن الصعب جداً أن تصنع فيلماً جيداً, و إذا لم يكن حكيك جيداً للقصة, فمن الصعب أن تمتع المشاهد بما يرى, الفلم السينمائي في نهاية المطاف هو تطور طبيعى لفن الرواية, و إن كانت الرواية المكتوبة تجسيد للأفكار والمشاعر على صفحات الورق, فإن الفلم ينقل الورق و المكتوب فيه الى حيز المرئي و شبه الملموس, و لكن في حين أن الرواية هو جهد فردي, فإن الفلم يختلف في أنه مجهود جماعي و يحتاج لكثير من التنظيم و التخطيط و الإدارة.

فيلم إم (M) انتج عام 1931, و هو من إخراج أحد رواد فن السينما, المخرج الألماني فرتز لانج صاحب تحفة متروبوليس و تحف بصرية أخرى عديدة. فيلم إم يمتاز بقصة جيدة, و حكي جيد و توظيف جيد لأدوات الحكي (ممثلين و موسيقى و أماكن تصوير … الخ) و سيناريو قوي واضح فيه الإستفادة من تجارب عديدة سابقة له أو لمخرجين آخرين, و ابتكار في الحكي.

الفلم يدور حول جرائم خطف وقتل أطفال غامضة, يعتقد الجميع أن ورائها شخص واحد, في الواقع هذا الشخص يبعث برسائل عديدة للصحافة تسرب واحد منها على غير رغبة رجال الأمن. تتسبب تلك الجرائم في تعكير صفو الأمن في برلين و صفو المجرمين و الشحاذين على وجه الخصوص, فالإجراءات غير العادية للأمن جعلت كلا من الشحاذة و اللصوصية مهن صعبة في ظل تلك الأجواء.

يبدأ الفلم بمشهد عام لأطفال يلعبون في ساحة احدى الدور و يغنون أغنية حول قاتل أطفال, فتظهر في احدى الشرفات بالأعلى أم تنهرهم و تطلب منهم الكف عن غناء تلك الأغنية البشعة, الأم قلقة لتأخر طفلتها في العودة من المدرسة, نفس الوقت ينتقل المشهد ليصور الطفلة و هي تسير في الشارع عائدة و تكاد تصدمها سيارة لكنها تنجو, تستمر بالسير تلهو بكرة معها, و في مشهد معبر تضرب بالكرة إعلانا منشورا بمكافأة لمن يدلي بمعلومات حول القاتل, في حين تضرب الكرة الإعلان يظهر ظل القاتل على الإعلان ناظراً للطفلة.



يأخذ السفاح و هو يصفر بلحن موسيقي شهير الطفلة لأحد باعة البالونات و يشتري لها بالونة و يصطحبها لأحد المنازل, في أثناء كل هذه الأحداث يبقيك المخرج على حالة الأم وهي تعد الطعام و هي تغسل الملابس و هي تنتظر الطفلة  و هي تنظر للساعة, … الخ في حكي موازي مشوق, و توظيف للبيئة المحيطة لإبراز حالة القلق و الحيرة داخل الأم, فمشهد كالسلم الدائر للأسفل أشعرني بحالة دوران الأفكار قلقا على الطفلة.

أداء للممثلة صاحبة دور الأم أكثر من رائع, تعبيرات الوجه, الملابس, حركات اليدين, الرأس, نظرة العينين, حركات الشفاه, أداء يبرز الجهد المبذول في إنتقاء عناصر الحكي بصورة جيدة, فالمشاهد لا يبذل جهاً لإقناع ذاته أن تلك أم حقيقة, و أن جزعها و قلقها هو قلق حقيقي, و الإختيار الجيد لعناصر الحكي و بخاصة الممثلين سيتكرر في كل الأعمال السينمائية ذات القيمة على اختلاف لغاتها, وأزمنتها.

تتصاعد الأحداث بشكل مرتب, في حين يسير المخرج بك بطبقات المجتمع المختلفة و جهود الأمن لإحكام الخناق حول المجرم, تجد نفسك و قد تعرفت على جهات عدة و شخصيات عدة في هذا المجتمع البرليني, من أدوات البوليس و عناصره, للحانات, لرواد النوادي الراقية, للصحافيين, حتى يتنهي تجوال المخرج بك عند اللصوص, فبسبب تلك الإجراءات بلغ بهم السخط مبلغاً على ذاك اللص جعل معه القبض عليه و الإنتهاء منه هدفهم الأول, يبغون بذلك إنهاء تلك الإجراءات الإستثنائية في المدينة, وبعد مقارنة ثنائية جميلة لاجتماعهم مع اجتماع الأمن, يقرر زعيم اللصوص أن الوقت قد حان للقيام بتلك المهمة, و أن خير من يساعدهم هو نقابة الشخاذين, فتنتقل بك الكاميرا لمجتمع الشحاذين و تتعرف على وجه آخر للمدينة.

الجميع الآن يطارد السفاح, الأمن, اللصوص , والشحاذون, لكن كيف الوصول اليه, ففي حين انتهى إجتماع الأمن الى أن المجرم لابد و أن يكون مريضاً نفسياً, يتفق اللصوص مع الشحاذين على إبلاغهم حال رؤيتهم لشخص بالغ مريب مع فتاة صغيرة, و في حين يحصل الأمن على قائمة بأصحاب الأمراض النفسية ممن أطلق سراحهم, يوزع زعيم الشحاذين المناطق و الميادين على رجاله لمراقبتها بدقة, و هكذا تبدأ المطاردة بالتوازي.

يصل أحد عناصر الأمن لبيت أحد المشتبه بهم, ينتظره في غرفة الجلوس لحين عودته, نفس الوقت يتفحص غرفته, يتفحص الطاولة ليرى إن كان عليها أي آثار كتابة, لا يجد, يفكر جيداً و يبحث في جوانب الغرفة عن منطقة محتملة للكتابة عليها, يتفحص إفريز النافذة, بالفعل وجد شيئاً مريباً هناك, ربما هذا الرجل هو بغيته.

السفاح بالشارع مع فتاة أخرى, يصفر نفس اللحن المميز, يتعرف الأعمي على الصوت, ينادي احدى الشحاذين و يطلب منه تتبعه, يجري وراءه من مكان لآخر, ثم في النهاية يقرر أن يميز بدلته بعلامة مميزة ليسهل نقل الوصف للشحاذين بالمناطق الأخري, فيكتب على جرف إم بالجير, و يضربه على ظهره بيده, ليطبع الجرف على ظهر البذلة.



تستمر المطاردة و السفاح لا يدري, إلى أن تنبهه الطفلة أن هناك شئاً ما على ظهره, ينتبه لأول مرة لما يدور حوله و يحاول الهرب, الى أن يتم حصاره في احدى الشوارع.



فيلجأ السفاح لإحدى المباني مختبئاً فيه, فيخبر الشحاذون اللصوص بالأمر و الموقع, و هنا يتولى اللصوص القيادة مقتحمين المبنى و مسيطرين عليه بمهنية وكفاءة, فيحاصروا السفاح في إحدى الغرف.



يضطر اللصوص للهرب بسرعة و معهم السفاح, بعد نجاح أحد الحراس في دق جرس الإنذار, ينصرف الجميع و ينسوا أحد اللصوص في احدى الغرف, يقبض عليه الأمن و منه تعرف القصة الغريبة.



نفس الوقت يعقد اللصوص و الشحاذون محكمة كاملة الأركان بهيئة دفاع عن السفاح, استكمالا للشكل الإجرائي, و يترافع السفاح المذعور عن نفسه في أداء يميل بشكل كبير للأداء المسرحي التعبيري, و إن كان الحوار في هذا المشهد يتميز باللغة العميقة المنتقاة بحرص, وهو ما عوض الى حد ما تلك المبالغة الزائدة في التعبير.



في النهاية يصل الأمن ليسيطر على الموقف, وينتهي الفيلم بمشهد للمحكمة وهي تبدأ القول في الحكم, لينتقل المشهد الى الأمهات الثكالى و أم الطفلة التي ظهرت في بداية الفلم و هو تقول ان هذا لن يرجع الأطفال.



نشر لأول مرة بتاريخ  2010/02/20