الأربعاء، 28 أغسطس 2019

معركة الجزائر


هذا الفيلم بالذات مصدر قلق شديد لكن من يتصدى للكتابة عنه, فواقعيته المفرطة جعلت تناول الأمور حوله صعبة للجميع, فالفيلم بكل وضوح يتنصر للمقاومة الوطنية في مواجهة الإحتلال, ينتصر لها حتى في تلك المشاهد المؤلمة و التي نرى فيها نساءاً و أطفالاً و رجالاً يتساقطون قتلى في عمليات تفجيرية, بعض منها كان إنتحاري الطابع, و ينتصر لها بعرض مشاهد التعذيب البشعة لأفراد الخلايا الصغيرة للوصول لأعلى الهرم القيادي, و ينتصر لها بعرض مشاهد إذلال المواطن من قبل جنود الإحتلال, و حتى بعرض مشاهد تفجير البيوت على ساكنيها, و الفلم من ناحية أخرى ينتصر لنظريات النضال المسلح, و من ناحية أخرى يظهر تكتيكات الإحتلال في تفكيك خلايا المقاومة, مما جعل الفلم مادة ثرية للإستغلال من قبل طرفي النزاع, المقاومة المسلحة و الإحتلال, لكن تظل المشكلة دوماً ما حدود شاشة السينما, و ما حدود ما يمكن عرضه حتى لو كان الهدف أخلاقي أو توثيقي أو معرفي أو ترفيهي أو حتى تجاري بحت, و سيظل السؤال جدلاً أبدياً.



غرفة صغيرة يقف فيها بضعة ضباط, و على مقعد جلس متهالكاً, نصفه الأعلى عارياً و به آثار تعذيب, و أدوات تعذيب نراها متناثرة بإنتظام على الجدران و على الطاولات المحيطة به, يربت أحد الضباط على الجالس على المقعد مطمئناً إياه بأن الأمر انتهى.

الصورة كئيبة … قاتمة, زادها الأبيض و الأسود واقعية و قتامة, لم ير أحد التعذيب, لم يسمع أحد صراخ الضحية, لكن تعبيرات الوجه و حركة من حوله و كل شئ بالغرفة يشي بالكثير عما حدث.

الجالس على المقعد جزائري … و الضباط فرنسيون, و ملامح تعابير الندم على وجهه تفصح عما قاله, هو عضو في خلية عنقودية هرمية, و لتوه أفشى بأسرار كثيرة, و تبقى ان يرشدهم لمكان المطلوب الأكثر أهمية, القائد علي لابوانت مع أفراد خليته الجديدة, في أحدى منازل القصبه, رجل و طفل و امرأة, و المفترض قيامهم باحدى العمليات في اليوم التالي.



علي لابوانت القادم من شوارع الجزائر الخلفية, الأمي خريج السجون, الثائر المندفع دوماً, الصامت بثقة تدفعك لمهابته, و بنظرة تحدي مستمرة من عينيه القويتين, لكن كل شئ تغير في الحبس, بالسجن رأى أناس يساقون للمقصلة لكفاحهم من أجل إستقلال الجزائر.



و هل ينسى صيحة ذاك المساق للمقصلة “الله أكبر تحيا الجزاير”  ؟ و كما سيق ذاك الرجل الى المقصلة, تغيرت نظرة علي لحياته و قرر أن يلتحق بالجبهة.



لم يخبرنا الفلم كيف وصل علي للجبهة, لكن الطفل الجالس بجواره قرأ له أول مهمة, إغتيال ضابط فرنسي يتردد على محل ليلتقط الأخبار, يوم الإغتيال عليه أن يقابل امرأة بالشارع, يتتبع الضابط, تناوله المرأة المسدس ليضرب عليه الرصاص من الخلف, و لكن علي دوما يقاتل معركته وجها لوجه العدو, لا يلتزم بالأمر, تحاول المرأة منعه, يتملص و يقف أمام الضابط و المسدس مشهراً بوجهه, و تنطلق كلماته: انظروا كيف يخاف, انظروا هؤلاء من يحكموكم, و تكهرب الموقف بالشارع و تعلقت الأبصار بيد علي و اصبعه على الزناد, و ضغط علي على الزناد, و لم يدو صوت الرصاص, كليك كليك, كانت الخزانة خاوية؟

اسمع علي, يصعب للشعب باش يبدأ ثورة, و يصعب له بالزاف باش يواصلها, و يصعب له أكثر و أكثر باش ينتصر, و لكن من بعد من بعد ما ننتصروا تبدأ الصعوبات الكبيرة

أصوات أقدام الجنود الفرنسيين وهي تخترق الأدوار الكثيرة, القبض على كل الرجال بالدار, تجميعهم في باحة الدار, يقف الرجل المتهالك في زي جندي فرنسي, يشير لهم بإحتقار لمكان إختباء على لابوانت.



خلف جدار مغطى ببلاط قبع علي لابوانت و رفاقه الثلاثة, و صمت طويل فرض نفسه, كانت كلمات الضابط الفرنسي لهم بضرورة الخروج و الإستسلام و إلا فجروا المكان.

أحياناً تغدو القدرة على التماسك  و الثبات على المواقف أقوى من غريزة البقاء, و أحياناً يبدو التراجع و الإنحناء الوقتي للظروف الطارئة في قمة التعقل رغم مرارته, القائد المباشر لعلي لابوانت استسلم, رأى الموت بهذا الشكل لا فائدة منه, لايزال هدفه الذي يسعى اليه لم يتحقق, لم تتحرر الجزائر بعد, لا فائدة للموت الآن, هكذا سلم ياسف سعدي نفسه.

علي لابوانت تمسك باستقلاله و بإمتلاكه زمام القرار, و الإصرار عليه, تم تفجير المكان, مات علي لابوانت و رفاقه, و كان موته شاهداً على وحشية الإستعمار و قسوة الغرباء على أرض لا يملكونها.

و لكن أليس الأجبن مهاجمة قرى غير محصنة بقنابل النابالم و التي تقتل آلافاً أكثر؟ بالتأكيد الطائرات ستجعل مهمتنا أسهل, أعطونا قاذفات قنابلكم سيدي, و تستطيع أن تأخذ سلالنا المفخخة.

بنتوكورفو, المخرج الإيطالي الموهوب لم يكن يريد أن يصنع فيلماً عن أحداث الجزائر, بل أراد أن يعيش تلك الأحداث, فجاء العمل شديد الواقعية, ياسف سعدي شارك بنفسه في تمثيل دوره بالفيلم, على لابوانت مثله جزائري لم يعمل بالتمثيل من قبل إبراهيم حجاج (شاهدته في مشهدين عابرين في وقائع سنوات الجمر) , مجاميع بشرية كبيرة, تصوير بالأماكن ذاتها,تشويش الصورة لجعلها أقرب لطبيعة الفيلم الوثائقي, تفجيرات حقيقية, أمور جعلت فلماً كهذا صعب التنفيذ بنفس الدرجة من الواقعية هذه الأيام, شارك بنتوكورفو في وضع موسيقى الفيلم, و يقول عنها “الصورة الموسيقية لها نفس درجة و أهمية الصورة البصرية, بل أحيانا تفوقها”, بنتوكورفو إيطالي و له تاريخ نضالي كواحد من قادة اليسار في إيطاليا, عدد أفلامه محدود مابين وثائقيات و أفلام روائية, و لعل أحد أسباب إقلاله في إفلامه ما قاله عن نفسه أنه يظل يفكر كثيراً في تفصيلات العمل, بل حتى يفكر كثيراً في جدواه من الأساس, لهذا السبب تراجع عن مشاريع أفلام كثيرة, لكن يبدو دوما شغفه بالسياسة هو ما يغلب على أفلامه, بعضها سبب له مشاكل مع دول مختلفة كفرنسا و أسبانيا, بل و جعلت بعضها صعب التسويق كأفلام تحقق مكاسب, و هي نفس المشكلة التي يواجهها كل من يتعمقون في هذه الإتجاه من الأفلام, وستواجه مخرجا موهوباً آخر هو كوستا جافراس, في حين يركز بنتوكورفو جهده على الإستعمار و قضايا التحرر, يركز جافراس على السلطة و دهاليز السياسة.

حصد الفيلم سبع جوائز منها الأسد الذهبي في مهرجان فينسيا 1966, و رشح لثلاث جوائز أوسكار.

نشر أول مرة بتاريخ 2010/01/02