الأربعاء، 28 أغسطس 2019

أماركورد

هذا أول لقاء لي بأفلام فلليني, لم أتحمس من قبل لمشاهدة أفلامه, و لم أدر مالسبب؟ حتى إطراء سكورسيزي الشديد في “رحلته الى إيطاليا” لفلييني و استعراضه بعضاً من أفلامه لم ينجح في شد انتباهي لأعمال فلليني, وبخاصة ما يعتبره سكورسيزي قمة أعمال فلليني و هو فيلم 81/2, لكن بنفس رحلة سكورسيزي و جدت نفسي مبهوراً بعالم دي سيكا و بخاصة رائعته إمبرتو دي بواقعيتها المخيفة, و أعماله الأخرى, لكن لم يلفت انتباهي حينها فلليني, رغم علمي بتكرار إشادة كثيرين بسينماه و اعتباره من أفضل مخرجي القرن العشرين.

لكن تغير كل هذا و أنا أشاهد أماركورد و التي كنت أحياناً أنطقها قمركرد, لا لشئ إلا لأن الإسم يبدو شاعرياً بعض الشئ, و يتقاطع مع طريقة نطق بعض الكلمات العربية, لكن الجملة تعني أتذكر, و هو سيرة شبه ذاتية لحياة المخرج و تقع أحداثه في مدينة إيطالية افتراضية تسمى بورجو.

لاداعي للخوض في أحداث الفيلم, فلا توجد قصة بالمعنى المتعارف عليه, و لا يوجد تسلسل أحداث بالشكل المتعارف عليه,  فالفلم عبارة عن تجوال حر للكاميرا في أنحاء المدينة لرصد خيالات و عواطف و تحركات سكان المدينة في قالب فني ميزته السلاسة و البساطة, فلا تجد نفسك تفكر كيف صور هذا المشهد, و لا أداء الممثلين للشخصيات, و لا اختيار الأماكن, بل تجد نفسك تستمع بالمشاهدة و تدهش, تدهش لهذا التدفق البسيط السهل للمشاعر و الأحاسيس و الأفكار و الأسرار على الشاشة.



لكني لا أستطيع تجاهل عنصر الصورة الموسيقية في هذا الحدث, فموسيقى نينو روتا كان لها حضور كبير في جنبات الفيلم, و ساهمت في جعل الصورة على الشاشة أقرب ما تكون للشاعرية, ففي أحد مشاهد الفيلم يقف مجموعة من الفتية أمام أحد القصور المفترض أنها مهجورة , المشهد غارق في الضباب الكثيف, و الفتية ينظرون من ثقب الباب لداخل القصر, و يتعجبون لجماله من الداخل, ينسحب ببطء و هدوء أحدهم و يقف على السلم مطرقاً رأسه للأرض ثم فجأة يبدأ في التمايل يسرة ويمنة و تجئ الموسيقى من لا مكان في وسط الضباب و الريح, يقترب منه زميله ينظر اليه و يبدأ هو أيضاً بالتمايل الخفيف و قد تسلل اليه الإحساس بالموسيقى, و شيئاً فشيئاً تتسلل العدوى لكل من بالمكان, فيبدأ الجميع في تناغم غير مقصود بالتمايل و الإحساس بالموسيقى كل بطريقته و خياله الخاص, و تجد حتى الكاميرا قد تجاوبت مع هذا الحدث فتتناقل بتمايل بينهم لتكمل لك جوانب الحدث, ثم تنهيه بمشهد من أعلى كاشف للحركة الجماعية المتناغمة الغريبة.

في مشهد سابق لهذا تجد بطلة الفلم نفسها داخل نفس القصر لمقابلة الأمير, و عندما تصعد من ظلمة الردهة الى الغرفة, يتغير المشهد تماما من قصر مترب معفر الى حجرة فخمة بها أناس بملابس القادة و الرؤساء, و من جديد تنطلق الموسيقى في أنحاء المشهد و تستجيب الكاميرا لصوتها فتبدأ الكاميرا في الصعود و النزول بخفة كأنها على مقدمة قارب في بحر, فتحول المشهد كانك في عرض البحر تشاهد عرضاً خلاباً صامتاً و قد امتلأت جنباته بالموسيقى.



الفيلم ملئ بالأحداث الكثيرة, كل منها يصلح مادة للتعليق عليها, لكن برأيي الشخصي أفضل مشاهد الفيلم هو مشهد انتظار السفينة, حيث خرج الجميع لإستقبال السفينة في قوارب تفرقوا فيها الليل بأكمله بإنتظارها, و يمر الوقت و لا تظهر, فيغلب عليهم النعاس الخفيف, و فجأة يستيقظ أحد الصبية الصغار على صوتها فيوقظ من حوله لرؤيتها, و تدخل السفينة الكبيرة فخر النظام الفاشستي, عند دخولها يختار المخرج زاوية تصوير تظهر لك تفاصيل السفينة مع الإحتفاظ بالإحساس بضخامتها, و من جديد تنبثق الموسيقا من لا مكان مع تماوج الكاميرا لتضفي تلك اللمسة الشاعرية على الحدث, و هي لمسة تبدو أقرب ما تكون لرومانسية حالة التذكر.



بالفلم مشاهد ساحرة و غرائبية للضباب, فحينما يخرج الجد من المنزل بعد أن لم يجد أحداً به, يغرق لوهلة في ضباب كثيف لا تتبين منه بداية ولا نهاية, ضباب كثيف يشبه الوحدة المحيطة بالعجائز, فيتهيب للحظات السير في أي اتجاه و يتسلل لنفسه شعور بالخوف والضياع ليجد أنه لا يزال أمام البيت و يعود اليه, لكن الطفل الصغير و هو ذاهب للمدرسة لا يتهيب السير في الضباب بل يندفع فيه, إلا أنه يبدأ تدريجياً في الإحساس بوحدته و تتضاعف مع إحساسه بالخوف من أشياء لا يميزها جدياً في الضباب.



لكن من أكثر المشاهد سخرية و ألما في نفس الوقت هو مشهد العم المجنون و هو على قمة الشجرة صارخاً في الفضاء العريض من حوله: “أريد امرأة”, لست أدري لم أضحكني هذا المشهد في البداية, ثم أثار تعاطفي الشديد معه و هو يكرر صراخه بقوة: “أريد امرأة”.

حاز الفلم على جائزة أوسكار لافضل فيلم أجنبي عام 1975, و رشح لثلاث جوائز أخرى, كما حصد ثلاثة عشرة جائزة مختلفة.


نشر أول مرة بتاريخ  2010/01/10