الاثنين، 28 ديسمبر 2020

وصف رأس البر من عام 1895



رأس البر 

لقد تنفَّس كُرْبنا وزال ما كنَّا نلاقيهِ من المضض كما اقبل الصيف بهجيرهِ ولم نرَ لنا 
ولاولادنا منهُ مهربًا الاَّ في ربى لبنان او جبال سويسرا حيث الشُقة طويلة والبعد عن
الاعمال ليس من الهنات الهينات . فقد وجدنا من رأْس البر مصيفًا طيب الهواء قليل 
الحر يكتفي بهِ من يشبع من المرق اذا فاتهُ اللحم . ولم نرَ حتى الآن مكانًا اطيب منهُ هواءً 
في هذا القطر لانهُ رمال جرداءُ بين بحر الروم وفرع دمياط تهبُّ عليها الرياح الغربيِّه 
مدى النهار فتلطف حر الشمس وهجير الظهيرة . ولياليها باردة الهواء ايضًا خلافًا لغيرها 
من الاراضي اَلَّتِي يحيط بها الماءُ

ويخال للمرء حين يراها اول مرة انها خالية من كل ما تقرُّ به العين ويرتاح لهُ 
الخاطر لانها رمال جرداءُ لا نبات فيها ولا حيوان غير قليل من العظايات والحشرات 

لكن من يحب الطبيعة ويقدِّر اعمال الانسان قدرها يری فيها كثيرًا ممَّا لا يخلو النظر 
اليهِ من لذة وفائدة . فالى الشرق منها منارة دمياط احدى منائر القطر المصري اَلَّتِي 
تهتدي بها السفن في بحر الروم وهي انبوب كبير تظنهُ عن بعد جزع نخلة خُضب 
بالبياض والسواد وربط بثلاثة جبال في ثلاث جهات لكي لا تعبث بهِ الرياح فاذا 
دنوت منهُ وجدتهُ برجًا شاهقًا من الحديد ارتفاعهُ ستة وخمسون مترًا وتلك الحبال الدقيقة 
اساطين مجوفة من الحديد كاغلظ العمدان . وفي قلب البرج سلم لولبية يصعد بها الى قمتهِ 
وهناك منارة كبيرة في كل جانب منها عدسيَّة ومواشير محيطة بها تجمع اشعة النور 
وترسلها في خطوط متوازية لكي تمتد الى ابعد ما يمكن ارسالها اليهِ وبينها قندیل كبير 
فيهِ فتائل متراكزة بوفد فيهِ زيت البتروليوم وتدور كوَّة  حول المنارة بآلة كالساعة 
فتحجب النور عن جهات وترسلها في اخرى في أوقات متساوية فيعلم النوتية من ظهور 
نورها وغيابهِ في تلك الاوقات انها منارة دمياط

وعلى مقربة من هذه المنارة طابية كبيرة يحيط بها خندق عميق في وسطها برج مستدير 
فيه مرامي البنادق وحولهُ ابراج اخرى ومدافع انكليزية كبيرة ممَّا ابتاعهُ اسمعيل باشا 
حينما كان يقصد الاستقلال بالقطر المصري . وقد نزلها عبد العال حشيش في الثورة 
العرابية وقصد استعمالها في صد الانكليز فلم يتسنَّ لهُ ذلك ومنها مدفع ثقلهُ ٤٠۳۳۸ 
ليبرة وثقل ما يقذف بهِ ٤١٦ ليبرة ومدفع آخر ثقلهُ ۲۷٤۸۲ لیبرة وثقل ما يقذف بهِ
٦۹۸ لیبرة . وقد عطلّت هذه المدافع على اثر الثورة و بقيت في اماكنها شاهدة على 
الاسراف وسوء التدبير . والطابية الآن دار لخفر السواحل

وجنوبي رأْس البر طابية اخرى مثلها فيها مدافع انكليزية كبيرة ممَّا ابتاعهُ اسمعیل 
باشا للغاية المذكورة آنفًا ثقل واحد منها ٤٠٤۲۲ لیبرة وثقل ما يقذف بهِ ۱۲ه لیبرة 
وقطر فوهتهِ عشر عقد انكليزية وبجانبها مستودع لمركبات المدافع بينها مركبة كبيرة يظن 
الرائي انها صنعت لنقل الجبال لا لنقل المدافع لضخامة عجلها

واعجب العجائب الصناعيَّة عشاش المصيفين وهي على طراز واحد تقريبًا ارضها رمل 
وجدرانها وسقفها من حصر الحلفاءِ و القصب وكذلك ابوابها وكواها . وكأن المصيفين 
سئموا الحضارة فارادوا العود الى البداوة فتراهم يخرجون صباحًا زرافات حفاة حاسرين 
وينفرون الى البحر يغتسلون فيهِ الرجال اولاً ثم النساءُ و يعودون الى عشانهم حفاة ملثمين

ويأتي البريد إلى رأس البر ويذهب منهُ مرتين كل يوم ببواخر صغيرة تسير 
بينهُ و بين دمياط وحبذا لو أوصل التلغراف اليهِ او الى العذبة المقابلة لهُ

وقد رأَى المصيفون انهم آتون للنزهة فهي غرضهم الاول ولذلك تراهم يقضون 
اوقاتهم في الزيارات والمسامرات وكل ما يجلي صدأَ الهموم

وقد راق لنا ما رأيناهُ في هذا المكان من المحاسن الطبيعيَّة والصناعيَّة فقلنا فيهِ 

نزلنا برأْس البر ما بين بحرَيْنِ                على رملة ميثاءَ صينت بسيِفَيْنِ 
يمدُّ اليها الماءُ حينًا وينثني                   كصبِّ براهُ الوجد خوفًا من البينِ 
ويلثمُ خدَّيها فيفترٌّ ثغرها                      لآلئَ صيغت فيه سمطَيْن سمطَيْنِ 
جماد ولكن لا حياةَ بغيرهِ                        سكونٌ حراكٌ فهو جامع ضدَّیْنِ 
اقامتْ بهِ الاسماك والطيرُ اذ رأَت            محارًا بلا حدِّ وصيدًا بلا صَوْنِ 
وقد خضعت تلك الملايين كلها                لمن بالنهي والحزم ساد على الكونِ 
تراب عليهِ عاملانِ تنازعا                          فصار بنو حواءَ من ذاك شخصَيْنِ 
فمن فاضلٍ بفدي العفاة بنفسهِ              ومن ناقص يزدان بالمينِ والشَيْنِ 
نزلنا كناسًا للظبي ومسارحًا                    جآذرها ترمي الكماة بنبلَيْنِ 
بيوتًا من الحلفاءِ لا تغتذي بها                مكاريب امراض ولا رُسل الحَيْنِ 
تمرُّ بها هوج الرياح كأَنها                        مصافي اطبَّاء تلافت قذى العَيْنِ 
نزلنا بها نبغي الاقامة سبَّةَ                    فطابت لنا فيها الاقامة شهرَينِ

المصدر: المقتطف الجزء الثامن من السنة التاسعة عشرة، أغسطس ( آب ) سنة 1895 الموافق 10 صفر سنة 1313. (رابط)، والمقال والشعر من تأليف دكتور يعقوب صروف، انظر الإشارة لذلك في كتاب كتاب نزهة الالباب في تاريخ مصر وشعراء العصر ومراسلات الاحباب لمحمد حسني العامري (رابط).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق